النسيان حارس الذاكرة… سلاح ذو حدين

سهى الدغيدي‎‎

النسيان ظاهرة طبيعية عادية لأنه حالة موجودة عند كل البشر لهذا يقال “سمي الانسان إنساناً لكثرة النسيان”، فهو ملازم للذاكرة وشرط من شروط سلامتها، لأن الذاكرة لا يسعها أن تحفظ كل الأحداث التي عاشها الانسان بدقائقها وتفاصيلها.

فالذاكرة التي تحفظ كل شيئ تثبت الانسان وتصيبه بحالة كمون وتعوق تكيفه مع العالم الخارجي المتميز بالصيرورة والتغير وتمنعه من مواكبة التطور لأنه يبقى حبيساً لماضيه، وهذا ما يؤكده الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بقوله: “النسيان حالة طبيعية يعيشها الفرد لأن الانسان لا يلتفت إلى الماضي إلا لحاجته الى إحداث التوافق مع بيئته”. ويقال “إن الذاكرة التي لا يسندها النسيان تضر الانسان بدل أن تنفعه”.

إن النسيان يعود بشكل إيجابي على الانسان في مختلف جوانب حياته، فعلى الصعيد النفسي يعد النسيان شرطاً للاستمرارية والوجود الانساني لأنه يمكننا من نسيان الماضي الأليم، ولولاه لأصبحت حياتنا جحيماً لا يطاق ولملأت الانسان هماً وغماً. فالانسان الذي يفقد أعز أقربائه إذا لم ينسى هذا الحدث بمرور الوقت فإنه قد يسبب له أزمات ومشكلات نفسية، لذلك فهو بمثابة الدواء الذي يعيد الى النفس توازنها.

يقول الفيلسوف الفرنسي جورج غوسدورف “النسيان شرط إستمرار الوجود”. بينما يؤكد الفيلسوف الفرنسي نيكولا شافور أنه “يجب أن نعيش حياتنا يوماً وننسى كثيراً”. ويعتبر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أن “هناك دائماً ما يجعل السعادة سعادة إنه إمكانية النسيان”. ويرجع المفكر سيغموند فرويد النسيان إلى اللاشعور، فالانسان يقوم بكبت الأحداث والصدمات النفسية التي تحرجه وتمس كبرياءه، ويروي عن نفسه أنه ذات يوم نسي إسم مريضته لأنه عجز عن تشخيص مرضها، ويقول: “إننا ننسى إلا ما لا نهتم به، وما لا نريد تذكره فنحن ننسى ما هو مصبوغ بصبغة وجدانية منفردة أو مؤلمة خاصة ما يجرح كبرياءنا”.

لا يمكن إنكار ما للنسيان من محاسن في حياة الانسان إلا أن هذا لا يعني إعتباره إيجابياً دائماً، فما يعاب على هذا التيار هو تجاهله الجانب السلبي للنسيان، فكثيراً ما يشكل عائقاً أمام الإنسان وسبباً في إخفاقه مثل الطالب الذي ينسى يوم الامتحان. كما أنه يعوق تكيفه مع محيطه الخارجي ويسبب له مشكلات داخل المجتمع، فالانسان الذي ينسى مواعيده وإلتزاماته المهنية يتهمه المجتمع بالتهاون والتقصير، كما لا يصح أن ينسى الانسان من أساء إليه ليس حقداً وإنما فطنة وإحترازاً.

يمكن القول ان النسيان سلاح ذو حدين لأنه ظاهرة إيجابية وسلبية في الوقت نفسه، فهو من ناحية إيجابي ومفيد للذاكرة إذا ما تعلق الأمر بنسيان الحقد والكراهية والأحداث المؤلمة التي تعتري الحياة الإجتماعية للناس وكذلك تجديد الأفكار حتى تتماشى مع الواقع المتغير، فهو يسمح للذاكرة باكتساب معلومات ومعارف جديدة. ومن ناحية أخرى هو سلبي ومضر للذاكرة وذلك عند عجز الانسان عن استرجاع ما يحتاجه عند الحاجة، لذلك النسيان ليس حالة طبيعية ولا حالة مرضية دائماً، فهو ضروري للذاكرة وحارس لها من جهة، ومرض عضوي ونفسي يصيبها في بعض الحالات ويجب على المصاب به معالجته والوقاية منه من جهة أخرى.

وأخيراً، فان النسيان على الرغم مما له من سلبيات، إلا أنه يبقى إحدى الوسائل الضرورية التي تساعد الانسان على تحقيق التكيف مع العالم الخارجي، وحالة طبيعية تفرضها الذاكرة التي لا يمكنها أن تحتفظ إلا بالمهم، لذلك يقول جميل صليبا: “خير لذاكرتنا أن تكون ملكة نساءة”.

شارك المقال