لم يفشِ وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف سرًّا حين أعلن أن روسيا وبكين تسعيان الى بناء وتكريس عالم متعدد الأقطاب عادل وديموقراطي، عقب لقائه نظيره الصيني منذ أيام، فالحديث الذي استمر طوال عقد من الزمن عن مدى قدرة نظام الأحادية القطبية المسيطر منذ سقوط الاتحاد السوفياتي على البقاء، عاد الى الواجهة من جديد مع انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
والحديث عن نظام عالمي جديد لم يأتِ على لسان لافروف فقط، بل تلاه تصريح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتبر فيه أن العالم لم يعد ثنائي القطب بل متعدد الأقطاب وهو يمر بفترة تحول. ماكرون أشار كذلك إلى أن “الصين ليست مستعدة للضغط على روسيا، فيما اتخذت دول الخليج موقفا محايدً بسبب موقفها المشكّك في الولايات المتحدة، واختارت العديد من الدول الأفريقية عدم الانحياز”.
إقتصاديًا: الصدارة الأميركية في مهب الريح
وكانت قد برزت عدّة مؤشرات تفرض الحديث عن البدائل الممكنة لنظام الأحادية القطبية خلال العقد المنصرم، لكن حدثين مفصليين جعلا هذا النقاش أقرب الى الواقع هما جائحة كورونا والعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. فرض هذان الحدثان سلسلة متغيرات على موازين القوى العالمية على عدّة أصعدة. اقتصاديًا مثلاً، توقع مركز “راند” أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2028، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة، قبل خمس سنوات مما كان متوقعا في السابق.
كما أفاد مركز الاقتصاد وأبحاث الأعمال (سي إي بي آر) بأن وباء كورونا وتداعياته الاقتصادية كانت لصالح الصين، مضيفا أن إدارة بكين الماهرة للأزمة ستجعلها الاقتصاد العالمي الرئيسي الذي سيتوسع العام المقبل. وفي تقرير له، قال المركز: “لبعض الوقت، كان الموضوع الرئيسي في الاقتصاد العالمي هو الصراع الاقتصادي والقوة الناعمة بين الولايات المتحدة والصين”. وأكد التقرير أن “جائحة كوفيد-19 والتداعيات الاقتصادية المصاحبة لها رجّحت بالتأكيد كفة الصين في هذه المنافسة”.
نقديًا: هيمنة الدولار مهددة
يتربع الدولار على عرش النظام النقدي العالمي، ويمثل ذلك أحد أبرز أوجه الأحادية القطبية، لكن هل هذا الأمر قابل للاستمرار؟ يعود ربط العملات بالدولار الى العام 1945 وما يعرف باتفاقية “بريتون وودز”، ويستمد الدولار الأميركي قوته من حجم الإقبال على شرائه لاستخدامه عملة احتياطية أو لتسديد ثمن تجارة، وفي حال توقف المستثمرون عن شراء الدولار فإن قيمته ستنخفض بشكل حاد.
العقوبات المفروضة على موسكو عقب الحرب الأوكرانية دفعت الرئيس فلاديمير بوتين للطلب ممن وصفها بـ”الدول غير الصديقة” أن تدفع ثمن الغاز الروسي بالروبل، بعد أن كان يتم تسديد ما نسبته 60% من عقود الاستيراد بالدولار الأميركي. الى ذلك، لا تخفي موسكو سعيها لـ”فك الارتباط بالدولار”، وقد أعرب أليكسي كودرين، رئيس غرفة الحساب الروسية، عن قناعته بأن شركاء روسيا سيتحولون “بكل سرور” نحو اعتماد العملات الوطنية بديلا عن الدولار في التبادلات التجارية. وتتجه أنظار روسيا في المجال النقدي الى عملة موحدة مع دول “بريكس” (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا).
إذاً يستمد الدولار قوته من حجم الطلب عليه، وقوته هذه مهددة باحتمال إقدام المزيد من الدول على اتخاذ خطوات مشابهة لما فعلته روسيا تزامنًا مع تزايد الاضطرابات السياسية وتوسّع مروحة العقوبات.
عسكريًا: التهديد النووي وتوازن الرعب
أما عسكريًا، فقد كثر مع بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا الحديث عن السلاح النووي وقد حذّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من إمكان لجوء روسيا لاستخدامه مرّات عديدة. وبغض النظر عمّا إذا كان سيستخدم هذا السلاح فعلاً أم أنه يبقى في إطار التهديد الكلامي، فإنه يفرض معيارًا جديدًا لحال توازن الرعب بين الأقطاب الأساسية حول العالم. فبعد أن كانت روسيا تسعى خلال الحرب الباردة للحاق بالركب الأميركي من حيث الترسانة النووية، باتت اليوم تتفوق عليها ممتلكة 6257 رأسًا نوويًا، مقارنة بـ 5550 لدى الولايات المتحدة.
أما من حيث قوة الجيوش، فقد كشف التقرير الأحدث لـ”غلوبال فاير باور“، الموقع العسكري المتخصص الذي يصنف القدرات العسكرية لكل دولة، عن استمرار الولايات المتحدة الأميركية في الصدارة في حين لا تزال الصين في المرتبة الثانية التي كانت تحتلها روسيا من قبل، وذلك بعد أن كرَّست بكين جهودها على تطوير قدرات الحرب البحرية والجوية والبرية، من خلال الاعتماد على موارد محلية بشكل أساسي. وأوضح التقرير عينه أنه إذا استمرت الصين في هذا الاتجاه، فهي ستصبح “الخصم العسكري العالمي الرئيسي” للولايات المتحدة، علمًا أن القدرات النووية غير مشمولة في التقويم الذي يلحظه التقرير.
الشرق الأوسط… الجديد؟
في هذا الوقت، تشهد منطقة الشرق الاوسط أحداثًا متسارعة، ففي حين تهرع الإدارة الأميركية لإبرام اتفاق مع إيران، برزت سلسلة مواقف خليجية مناهضة للغرب، إذ فاجأ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان العالم عندما أعلن أنه “لا يهتم إذا ما كان الرئيس الأميركي قد أساء فهمه” ثمّ عاد ليؤكد للرئيس بوتين دعمه لتحقيق الأمن والاستقرار وحل الأزمة الأوكرانية بالحوار. كما برز تصريح للمستشار الرئاسي الإماراتي أنور قرقاش رأى فيه أن “الهيمنة الغربية تعيش أيامها الأخيرة”، وأن “الأزمة الأوكرانية تهدد العالم بالانقسام الأفقي والعامودي وسيكون لها تداعياتها الخطرة على النظام الدولي”.
وعليه، فإنّ موازين القوى تتبدل، والأقطاب الكبرى تسعى صراحة لفرض نظام عالمي جديد، أكثر عدلاً وديموقراطية حسبما رأى لافروف، أما خريطة التحالفات وعلى الرغم من أنها تبقى عرضةً لمقتضيات البراغماتية والتبدل مع تبدل المصالح، إلا أن معالمها الأولية بدأت تتكشف، ولم يعد السؤال اليوم عمّا إذا كان نظام عالمي جديد قد بدأ يبصر النور، فهذا الأمر بات واقعًا، والسؤال يقتصر على “متى” و”كيف” يولد هذا النظام؟ هل يكون تغيّرًا سلسًا أم أننا أمام حرب حديد ونار عالمية جديدة؟.