المبالغة في حرية المعتقد: ثقافة تهديد الاختلاف

د. سيلفا بلوط

يتبدّى المعتقد ضرورة في حياة الفرد باعتباره لا يرتبط بمسألة وجوده فحسب، وإنما أيضاً لأنه جزء من نتاج ثقافيّ يُضفي على حياته طابعاً خاصاً، فيميّزه عن غيره من الأفراد. كما يبحث، من خلاله، في كلّ ما يحيط به ويتفاعل معه، ويعمد إلى إسقاطه على علاقاته. ومن هذا المنطلق، يؤثّر المعتقد في شخصية الفرد، ويحدّد طبيعة روابطه مع الآخرين وسلوكيّاته تجاههم. وتعدّ حرية اعتناق دين أو إيديولوجيا أو حتى مبدأ سياسيّ… من الحقوق التي نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان، ومعها بالتأكيد الدستور اللبنانيّ الذي التزم في مقدّمته احترام هذا الحق وكفله، مع شرط عدم التعرّض للآخر. بمعنى آخر، وضعت ضوابط لهذه الحرية، مثل باقي الحريات، لكي لا تتحول إلى “عيب” أخلاقيّ، إن صحّ التعبير، ينال من تماسك المجتمع. ولا يخفى ما للحرية عموماً، وتلك المتعلّقة بالمعتقد خصوصاً، من أهمية في بناء مجتمعات متصالحة مع ذاتها، وضامنة للتنوع الثقافي الذي يؤدّي دوراً في تعزيز وحدتها وصلابة تماسكها، بالإضافة إلى الحفاظ على الحضارات وتعايشها على الرغم من تمايزها في نواحٍ كثيرة. وحفل التاريخ البشريّ بالكثير من النضالات التي قامت بها شعوب كثيرة، على مرّ الأزمان، من أجل الحصول على حريتها في المعتقد، كما دفعت أثماناً باهظة في سبيل التحرّر من العبودية التي كانت تُفرض عليها حتى في معتقدها. وعلى الرغم من الأهمية التي اكتسبتها حرية المعتقد في الحفاظ على المجتمعات البشريّة باعتبارها تهيئ الأفراد لاحترام التنوّع الفكري والإيديولوجيّ نظراً إلى ما تحمله من مرونة فكرية تسهم في تقبّل الآخر، إلا أنها، في المقابل، أدت دوراً في تهديد مجتمعات كثيرة بعد أن بدأت تتفلّت من ضوابطها، وخصوصاً عندما تمّ ذلك باسم الدين، فأُفرغَت من مضمونها كراعية للتنوع الثقافيّ وأضحت سلاحاً يؤسّس لأحادية “معتقديّة” ويلغي الآخر المختلف. وفي هذه الحال، كان من الطبيعي أن تتحول حرية المعتقد إلى سلاح “إلغائيّ” أو سياسة “إلغائيّة” بدلاً من أن تكون وسيلة ديموقراطية وأداة حوار.

في هذا السياق، يمكن القول إن ممارسة حرية المعتقد قد تتّخذ منحيَين: بالنسبة إلى المنحى الأول، فيتمثّل في ديموقراطيّتها، أي في قبول الآخر المختلف وتقبّل العيش معه بسلام. أما في ما يتعلّق بالمنحى الثاني، فتأتي ممارسة هذه الحرية لتكشف عن ديكتاتوريّتها من خلال رفضها لهذا الآخر المختلف وصولاً إلى محاولة إلغائه. ويتجلّى الفرق الجوهريّ بين هذين المنحيَين في ضبط حرية المعتقد أو عدمه. ويأتي مستوى الوعي وطبيعة التنشئة ليحدّدا أي مسار ستسلكه، الديموقراطيّ أم الديكتاتوريّ.

وبما أن حرية المعتقد، كأي حرية، تفقد جوهرها عندما تنزع عنها ضوابطها، كما ذكرنا، فإنها قد تتخذ منحى مرضياً يكون، في الغالب، عظامياً. وفي هذه الحال، يتحوّل من يمارسها إلى “آلة” أو “أداة” تكفير يتمّ من خلالها تهديد الآخر وإخضاعه. ومثلما يوجد الإنحراف، كحالة شاذة، في الحياة النفسيّة، يوجد أيضاً في الحياة الفكرية وفي المعتقد أيضاً. إذاً، يتحول الحق في المعتقد، في أحيانٍ كثيرة، إلى اضطراب نفسيّ عندما يتفلّت من ضوابطه باعتباره يطال المسائل الوجوديّة ويرتبط بوجود الفرد أو عدمه، وكأن تمتّعه بهذا الحق يضمن وجوده وحياته، وأمّا حرمانه منه فيهدّدهما، لذلك نراه يحارب به ومن أجله أيضاً على حدّ سواء. بمعنى آخر، يعمد الفرد إلى استخدام حقّه في المعتقد كسلاح يلغي به الآخر المختلف الذي يراه تهديداً له من أجل حماية هذا الحق نفسه. لذلك يجيز لنفسه، في الحالتين، مهمة الدفاع عن معتقده، وكأنه موكل إليه إتمام هذه الرسالة “المقدَّسة” في نظره. وتتحوّل حرية المعتقد، عندئذٍ، إلى ثقافة تكفير وتهديد تنال من استقرار المجتمع والدولة، وخصوصاً عندما تتحكّم بها مجموعات تسعى إلى توظيفها لتؤسّس لمشروع يطيح بالدولة. وقد تستثمرها في تشكيل عصابات تعمد إلى ترهيب الآخرين وافتعال الأزمات وأيضاً الحروب التي تهدّد كيانها ومؤسساتها. ومن الطبيعي أن ينسحب هذا الواقع المرير على الحياة الديموقراطية، فينهكها، ويحوّلها إلى نظام ديكتاتوريّ يطبق على الحريات العامة وينال منها.

وأما في لبنان، فقد ارتضى الكثير من المواطنين أن يكونوا عبيداً لمعتقدهم، وجعلوا من أنفسهم، طوعياً أم لا، أدوات يستخدمها الزعيم في تخوين الآخر وترهيبه. كما تحوّلوا إلى أصوات صامتة “خرساء” في صناديق الإقتراع من أجل وصوله إلى السلطة وارتهانها، وتقرير مصير بلد بأكمله.

خلاصة القول، تتحوّل حرية المعتقد إلى نقمة عندما تُنزَع عنها ضوابطها، لأنها تطلق العنان للعدوانية عند من يمارسها ويوظّفها بما يخدم مصالح زعيمه أو مصالحه الخاصة، بحيث يعطي لنفسه أحقيّة احتكار قرارات الآخرين. كما تؤسّس لثقافة تهديد لا تنحصر في إيذاء الآخرين وحسب، وإنما في تقويض ركائز الدولة.


* دكتورة في علم النفس

شارك المقال