شيخوخة لا تليق بـ”برَكة بيتنا”

جاد فياض
جاد فياض

كبارُنا، هم “بركة البيت”. أنهكهم الدهر حتى باتت تجاعيد وجوههم تعكس مرارة الحياة، لكن البسمة التي لا تفارق ثغورهم وكأنها تقول ما من مُرّ إلّا ويقابله حلوٌ يهوّن عليك. الكهولة في لبنان والدول المشابهة لا تشبه تلك التي نراها في الأفلام الأميركية، زوج وزوجته يستمتعان في منزلهما الريفي قرب مزرعة صغيرة، يعتاشان منها ويحضران الغرف لاستقبال الأحفاد في عطلة نهاية الأسبوع، بل الواقع مغاير تماماً.

قد ترى في لبنان سبعينياً يبيع عبوات المياه على حافة الطريق قرب المدينة الرياضية، وآخر يحمل أشوال الطحين الثقيلة لنقلها إلى الشاحنة في الكرنتينا، وغيرهما ينتظر أمام أبواب المستشفى للدخول واجراء جراحة طبية، وهكذا دواليك. هم مضطرون للعمل وتكبّد مشقات الحياة حتى في شيخوختهم التي لا تعترف بها حكومتهم، وبعيدون كل البعد عن أشكال الراحة الجسدية والنفسية التي نراها في الأفلام.

تجلس إلى جانبهم، فأول ما يقولونه لك، “مرّت علينا أيام صعبة، لا نعلم ما إذا كانت أصعب من الأيام التي تمر حالياً”، ثم يروون لك المخاض والتجارب التي اختبروها، ويحاولون تشبيهها بالمرحلة الحالية التي يمر بها لبنان، ومقارنتها، من دون أن ينجحوا بذلك، لتكون خلاصة الحديث، إنه أسوأ الأزمان.

أعتبر نفسي محظوظاً لكون الفرصة سنحت لي بمجالسة أحد المعمّرين قُبيل وفاته منذ فترة ليست بالطويلة، وهو رجل تجاوز عمره الـ105 سنوات من عمره. بيني وبينه أكثر من ثمانين عاماً، ولا يجمعني به شيء إلّا رغبتي بسماع قصصه وتفاصيلها، وكأنه كان يرشدني بطريقته.

وُلد أثناء الحرب العالمية الأولى، لا يتذكر الوجود التركي لصغر سنه، لكنه يتذكّر بالتفاصيل فترة الانتداب الفرنسي والتطور الذي شهدته البلاد آنذاك، ومعركة الاستقلال التي انتزعها اللبنانيون، والثورة البيضاء، فثورة الـ58، والحرب الأهلية المشؤومة. حقبات صنعت تاريخ لبنان، يحكيها بطريقته، ليقول، عشنا فترات جميلة، زمن لبنان الذهبي خلال عهد فؤاد شهاب، وزمن بيروت الأسود أثناء فترة الحرب.

كان يُبادر ويمازحني بالقول: “بعيداً عن السياسة، في شبابي لم يكن هناك سيارات ولا حافلات نقل، وكانت المحلات في الجبل قليلة، فكنت أسير على الأقدام أو على ظهر الحمار ساعات للوصول إلى الملحمة، أما اليوم وفي زمانكم، السيارات موجودة، لكن لا وقود، التاريخ يُعيد نفسه، لكنكم جيل كسول، لا يمشي”. ليعود بعدها إلى الواقع الحالي، فتغيب البسمة عن وجهه، ويحضر القلق.

سألته يوماً عن هواجسه، فعجز عن الكلام، وهو رجل صاحب عزّة نفس. قال حينها: “عملت طوال عمري ولم أحتج مساعدة أحد، اكتفيت وأعلت أسرتي من عرق جبيني، ولم تغب حسابات شيخوختي عني، وقد جمعت المال لكي لا أعوز أحداً، فأي زمانٍ هذا يدفعني إلى طلب المساعدة اليوم لأعيل نفسي وأنا وحيد بعد وفاة زوجتي؟”.

وتابع: “كان همي أولادي ومستقبلهم، أفنيت سنوات عمري لتأمين مستقبل يليق بهم، فدقت أجراس الحرب وراح كل ما عملت من أجله، عانينا كما عانى الجميع. الواقع يتكرر مرةً أخرى اليوم، ها هم يشاهدون انهيار البلاد برمتها بعدما حاولوا جاهدين تأمين الحد الأدنى لأبنائهم، أحفادي. لكن قدرنا أن نعيش في الحلقة المفرغة نفسها”.

وأضاف: “أحمل هم أولادي ومسؤولية تأمين مستقبل أبنائهم، كما أحمل هم نفسي أيضاً، من سيعيلني بعدما أصبحت مدخراتي المتواضعة لا تساوي فلساً؟ لا يبخل أحد من أبنائي عليّ، لكن مسؤولياتهم كثيرة، وتراودني أسئلة كثيرة، ماذا لو دخلت المستشفى؟ ماذا لو عجزت عن الحركة واحتجت لممرضة في المنزل؟ من سيؤمن هذه التكاليف الباهظة؟”، مع العلم أن صحته كانت جيدة، فهو فلاح إبن أرض.

لم يكن يحب التشاؤم، لكنه طرح أسئلة جدية وخطيرة وواقعية. ختم يومها حديثه: “كان من المفترض أن تكون هذه الفترة نقاهة، “لا هم ولا غم”، لكن لا نصيب”.

حديثه القصير يحمل الكثير من المعاني. فماذا يعني أن يحمل رجل تجاوز سن المئة همّ نفسه وهمّ أولاده وأحفاده؟

في لبنان لا دولة تؤمّن ضمان الشيخوخة، أو الحد الأدنى من الاستشفاء والطبابة إلّا بعد “مية واسطة”، أو الحد الأدنى من الأمن الغذائي لكبار السن، بل تساويهم بمختلف المواطنين في اختبار الذلّ بمختلف وجوهه. لا شيء ليتمنوه، فما فات هو أكثر مما تبقى، لكن تأمين حياةٍ كريمة لهم أضعف الإيمان.

شارك المقال