علاقة بكركي وعون بدأت بـ”بَركة” وانتهت بـ”سوء تفاهم”!

جورج حايك
جورج حايك

قد تكون علاقة البطريركية المارونية بالعهود الرئاسية متقلّبة منذ الاستقلال عام 1943 حتى اليوم، وتتحكّم بها هواجس عديدة تتأرجح بين حرص الكنيسة على حماية رئاسة الجمهورية المقام المسيحي الماروني الأول في الدولة اللبنانية، وصولاً إلى المحافظة على ثوابت البطريركية المارونية التي لم تتغيّر منذ 1400 عام.

لكن علاقة بكركي بعهد ميشال عون كانت مغامرة بحد ذاتها، فهو أتى رئيساً بمباركتها عندما جمعت الزعماء المسيحيين الأربعة الأكثر تمثيلاً ميشال عون، سمير جعجع، أمين الجميل وسليمان فرنجية، ورعت اتفاقهم على أن يكون رئيساً للجمهورية الزعيم الأقوى، وربما المقصود بهذه الكلمة الذي يحظى بتمثيل مسيحي مرضٍ، وحتماً وقع الخيار بعد ذلك على عون، من دون الخوض في تفاصيل جدليّة لا تتعلق بالموضوع الذي نعالجه.

مبادرة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي كانت محفوفة بالمخاطر، ليس لأن مبدأها غير سليم فحسب، إنما بسبب شخصية عون المتناقضة والمتقلبة التي لا تأبه لثوابت بكركي، بل كانت محصّلة عهده بعد ستة أعوام: وضع البلد في تصرف “حزب الله”، خوض معركة توريث صهره جبران باسيل الرئاسة على حساب استقرار البلد، التعطيل للكيدية السياسية متسلحاً بحجة الصلاحيات الرئاسية، عدم الاستعداد للقيام باصلاحات وتحميل المسؤولية للآخرين وغيرها.

لم يكن الراعي راضياً عن هذا الأداء، لكن بطبيعته الكهنوتية المسيحانيّة استمر في اعطاء عون الفرصة تلو الأخرى، متأملاً أنه سيصحّح المسار، وبقي يزوره في قصر بعبدا في أحلك الظروف، وجدران القصر شاهدة على الكلام الصريح الذي كان الراعي يحرص على البوح به أمام عون، فهو أراده رئيساً قوياً فعلياً، حيادياً، لا مدافعاً عن أداء “حزب الله” في الحلوة والمرة، أراده حكماً متصالحاً مع نفسه ومع الآخرين من دون تصرفات كيدية، إلا أنه لم يتصرّف كرئيس للجمهورية انما كرئيس لـ “التيار الوطني الحر”!.

كان البطريرك يصغي إلى شكاوى زعماء القوى السياسية المتنوّعة من عون، ويحاول تهدئتهم، صارفاً من رصيده الكنسي والوطني لحماية المركز الأول للمسيحيين في الدولة، وكم من مرة تألم لسماعه مواقف تطالب بإستقالة الرئيس، وكان يطالب بالعودة إلى الدستور، وقالها مرات عدة إذا كانت هناك من آلية لإقالة الرئيس في الدستور فلن يحول دون ذلك.

لا شك في أن انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، كان مفصلياً، وارتفعت أصوات عدة تطالب الرئيس بالاستقالة، وصلت إلى مسامع البطريرك وتفهمها، وترك القرار للرئيس كي يقوم بالخطوة المناسبة، لكنه لم يفعل، علماً أن انفجاراً بهذا الحجم الهائل في أي مكان في العالم كان أسقط رؤساء وملوكاً وحكومات وأنظمة!.

قد يُتهم البطريرك الماروني بمنح ثقة غير محدودة للرئيس السابق ميشال عون طوال ستة أعوام، لكن بكركي لم تشكّل غطاء فاعلاً له، إنما السبب الأساس لاستمراره حتى آخر العهد يعود الفضل فيه إلى “حزب الله” الذي أمّن ديمومته بهيبة السلاح، وعون أمّن الغطاء الرئاسي لسلاح “الحزب” وعبثه بمقومات الدولة… تلك هي المعادلة التي حكمت لبنان طوال ستة أعوام!.

لم يرد البطريرك الراعي علاقة متوترة مع عون كما كان بين الأخير والبطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، تجنّب ذلك بكل طاقته، ونأت بكركي بنفسها عن التجاذبات بين الأحزاب المسيحية، فالراعي كان يتخذ مواقفه بمنأى عن الصراعات الدائرة بينها، كان يستمع اليها، وقد يتلاقى في الرأي مع بعضها، إلا أنه لم يتورط بالقيل والقال، لأن دور بكركي ليس مسيحياً فحسب بل ذو أبعاد وطنية، هذا ما كانت عليه منذ تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920، وعلاقتها بكل رؤساء الجمهورية اتسمت بثابتتين: الأولى العيش الواحد المسيحي – الاسلامي، والثانية المحافظة على الحرية التي لطالما تميّز بها لبنان، وبالتالي بقدر ما تتحقق هاتان الثابتتان ويلتزم بهما الرؤساء تكون بكركي راضية وهناك تناغم بينها وبين رئيس الجمهورية يساهم في الحفاظ على الوطن وتحصينه، أما إذا زاح الرؤساء عن هذه الأسس فعندها يكون التحفظ من البطريركية المارونية التي هي ليست زعامة إنما مرجعية وهذا بإقرار الجميع في لبنان.

لكن العلاقة بين بكركي وعهد عون اتخذت منحى آخر في العامين الأخيرين لشعور بكركي بالمسّ بهاتين الثابتتين، لذلك دعا الراعي إلى الحياد وطالب بمؤتمر دولي من أجل لبنان، وصولاً إلى دعوته المتكررة إلى إجراء الانتخابات الرئاسية وإعادة تبنيه اتفاق الطائف، لكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت قضية المطران موسى الحاج، التي حمّل فيها الراعي مسؤولية مشتركة لـ “حزب الله” والعهد. ولعل أكثر ما أثار غضب بكركي كانت تلميحات عون بعدم خروجه من القصر
عند انتهاء ولايته إذا لم ينتخب رئيس جديد للجمهورية، لأنه لا يمكن للراعي أن يغطي بقاء رئيس الجمهورية بطريقة غير دستورية، وكان واضحاً في توجيهه رسائل مباشرة إلى عون في هذا الشأن. فالراعي المتّهم بتأمين الغطاء لعون وحمايته من الاقالة لم يخرج عن ثوابت بكركي ألا وهي الرئاسة أهم من أيّ رئيس.

ولم يخف البطريرك الراعي أمام زواره انزعاجه من حملات العهد على ثلاثيّة القضاء والجيش والمصرف المركزي وهي من المؤسسات الأساسية التي يقوم عليها هذا النظام، وخصوصاً أن دوافعها تدخل في إطار حسابات شخصية أدت إلى المزيد من الانهيارات والانفجارات الاجتماعية.

على خط مواز، برز التناقض بين توجهات عون والبطريرك الراعي خلال زيارة الأول إلى الفاتيكان وتوجّه الثاني إلى مصر، وقد حاول عون أمام الكرسي الرسولي الدفاع عن “حزب الله” وحلف الأقليات مستفيداً من قربه من بعض الكرادلة المؤمنين بهذا الفكر هناك، فيما كان الراعي يتحدث في مصر ذات الأكثرية السنيّة المسلمة عن عمق لبنان العربي ومشروع الحياد الذي يحفظ علاقات لبنان مع الجميع من دون التورط بمشكلات خارجية، وهناك تحدث الراعي، على نقيض عون، عن ضرورة تطبيق اتفاق الطائف وموضوع سلاح “حزب الله” الذي “خرج من يد اللبنانيين، ولو كانت هناك استراتيجية دفاعية لحُلَّ جزء من المشكلة”.

أما عون فاسترسل في الفاتيكان في الحديث عن أن المسيحيين في لبنان بألف خير. فيما الكنيسة الكاثوليكية في روما كانت تعرف أن أعداداً كبيرة من الشبان المسيحيين تهاجر، والقطاعات والمؤسسات التي أنشأها المسيحيون أنفسهم تنهار أمام أبصارهم، والصراعات الأهلية العقارية والجغرافية في الحدث ومناطق لاسا والعاقورة بين الكنيسة المارونية و”حزب الله” لا تتوقف. فهل هذا كله ليس من عناصر تهديد المسيحيين؟

لم ينجح عون في خداع الفاتيكان، ولم يستطع تبرير مواقفه والبحث عن صك براءة لعهده وتحالفاته، ولتثبيت مبدأ تحالفه مع “حزب الله”، ومسألة حلف الأقليات التي روّج لها هناك لم تحظ بموافقة الفاتيكان، وخصوصاً أن قداسة البابا فرنسيس يعلم أن لبنان لا يمكن أن يستمر في ظل غلبة طائفة على أخرى.

حاول عون ضرب “اسفين” بين الفاتيكان والكنيسة المارونية، لكن محاولته باءت بالفشل، وبدا موقفهما متناغماً إلى حد كبير في هذا الشأن، وبالتالي قلّة من الناس تعرف أن مواقف الراعي منسّقة مع الفاتيكان حول الحياد الايجابي، والحفاظ على علاقات لبنان بمحيطه العربي، وعدم الدخول في سياسة الأحلاف والمحاور.

وآخر ما زاد التوتّر بين فريق “العهد” والبطريرك الراعي دعواته إلى انتخاب رئيس “فوق الاصطفافات والمحاور والأحزاب”، يكون قادراً على “الشروع في وضع البلاد على طريق الإنقاذ الحقيقي والتغيير الإيجابي”. فهم العهد هذه الدعوات بأنها موجّهة ضده وللإمتناع عن انتخاب رئيس جديد ينتمي إلى تياره أي جبران باسيل.

انطلاقاً من هذه المعطيات وهذا المسار، جاء توقيف المطران موسى الحاج وبدا أن المسألة تتجاوز مسألة زيارة الأراضي المقدسة وخصوصاً أن المطران الحاج يرأس الكنيسة هناك ويديرها منذ وقت طويل، وتوقيت عملية التوقيف مريب لأنه أتى عقب الكلام التصعيدي للبطريرك الراعي حول مواصفات رئيس الجمهورية، وهنا بيت القصيد!.

لا يتطابق دفتر شروط الراعي هذا مع “بروفايل” باسيل، بل هو يلائم شخصية تسوويّة تكون قادرة على التفاهم مع الجميع، مؤمنة بضرورة تحييد لبنان عن الصراعات الخارجية، وهو الطرح الذي طالما دعت بكركي إلى تبنّيه داخلياً وخارجياً.

وما زاد الطين بلّة، لامبالاة بكركي ازاء تشكيل حكومة جديدة واعطاء الأولوية للانتخابات الرئاسية، إذ يخشى البطريرك أن يتكرر مشهد الفراغ الرئاسي الذي حصل بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، مبدياً مخاوفه من أن يؤدي أي شغور رئاسي إلى إسقاط الجمهورية أولاً خدمة لمشاريع خارجية وتمهيداً لتغيير هوية لبنان، وثانياً لإفقاد التوازن الوطني وإقصاء الدور المسيحي والماروني تحديداً عن السلطة.

تُدرك بكركي أن ما حصل خلال عهد ميشال عون أدى إلى هجرة مسيحيّين بمئات الآلاف، وأدّت سياسته إلى إضعاف موقع الرئاسة نتيجة تحالفه مع ميليشيا ضد الدولة مما عزل لبنان عربيّاً ودوليّاً.

بالنسبة إلى بكركي انتهت مرحلة ميشال عون، لكن اللعنة على الموارنة مستمرة، ولا خلاص إلا بانتخاب رئيس جديد انقاذي، حكيم وسياسي محنّك، يطبّق اتفاق الطائف، ويعيد الإعتبار إلى مؤسسات الدولة ويُخرج لبنان من عزلته ويسترجع علاقاته مع المجتمع الدولي والدول العربية مما ينعكس استقراراً وازدهاراً.

شارك المقال