البطريرك… متى يرفع عصاه؟

أنطوني جعجع

هل تأخر البطريرك بشارة الراعي في رفع صوته في مواجهة “غزو” عقائدي وممانع يهجّر رعيته ويقضم لبنان قطعة بعد قطعة ويكاد يحوله الى نسخة مموهة عن الجمهورية الاسلامية في ايران أو الى جزيرة معزولة لا يؤمها أحد ولا يستقر فيها أحد؟

في جوجلة المراقبين، ثمة اجماع على أن البطريرك الماروني تأخر وتأخر كثيراً، وتعثر في جمع القاعدة والقيادات المارونية حول استراتيجية وطنية موحدة، وفي تحويل بكركي الى مرجعية مهابة لا يجرؤ أحد على تحديها أو تجاهل توجهاتها الوطنية والروحية.

خطيئة الراعي الذي ركز على جولات خارجية لا طائل منها، أنه حاول أن يتخذ منحىً مختلفاً عن البطريرك الراحل مار نصر الله صفير، هو الذي كان يأخذ عليه جر المسيحيين الى “خيارات قاتلة” والانحياز الى نصفهم في مواجهة النصف الآخر، فافتتح عهده بزيارة الرئيس بشار الأسد مساهماً في تطهير ماضيه المرير مسيحياً، وفي تعويمه من دون أن يأخذ شيئاً في المقابل، وانفتح على البيئة الشيعية عبر جولات على الجنوب والبقاع من دون أن يحصل في المقابل الا على قرار أميركي يمنعه من دخول الولايات المتحدة ليصبح بذلك أول بطريرك ماروني يتعرض لمثل هذه السقطة المعنوية والوطنية المدوية.

والواقع أن البطريرك الذي رفع شعار “شركة ومحبة” نجح في جمع “الأقوياء الأربعة” لكنه فشل في التوفيق بينهم، فكانت لقاءات بكركي لقاءات شكلية سرعان ما تنتهي مفاعيلها فور عودتهم الى قواعدهم. ونجح أيضاً في فتح جسر تواصل مع “حزب الله” كان بمثابة لياقات أكثر منه “شركة ومحبة”، فلم يتمكن من الحصول على أي تنازلات من حسن نصر الله تصب في مصلحة الدولة والبلاد، ولم يبد “حزب الله” أي نية لمنح الكنيسة المارونية أي “أمجاد” وطنية أو شعبية، واتخذ خطاً سلبياً مليئاً بالاستخفاف والتحديات، وفي مقدمها وضع اليد على أملاكها في منطقة لاسا، ورفض أي مبادرة تطلقها بكركي وفي مقدمها الحياد، وفي توجيه أسهم “العمالة”، غير المباشرة نحوها كمثل ما أصاب المطران موسى الحاج العائد من الأراضي المقدسة.

وأكثر من ذلك، لم يلقَ الراعي من “الأقوياء الأربعة” أي تماهٍ جدي مع مبادراته وطروحاته، فاتخذ ميشال عون من حسن نصر الله مرجعاً له واتخذ سمير جعجع من بكركي ملاذاً يلجأ اليه في أيام الشدة تماماً كما حدث عندما استدعي للتحقيق في حوادث الطيونة، واتخذ سليمان فرنجية من خطه السياسي الممانع ثابتة لا تتزحزح، واتخذ أمين الجميل من حزبه وعائلته مساراً وحيداً لا يتوقف عند أي مرجعية سياسية كانت أو روحية.

وأكثر من ذلك أيضاً، مارس الراعي سياسة الوقوف في الوسط تماماً كما حدث في “ثورة السابع عشر من تشرين” عندما راح يدعم الثوار في عظة قبل أن يدعم الحكومة ورئيس الجمهورية في عظة أخرى، ففقد بذلك هالته لدى الشعب ورصيده لدى السلطة، وتحول الى حيثية وطنية تفتقد الى قاعدة شعبية يعتد بها، باستثناء تلك الحزبية التي احتضنها في ساحة بكركي دعماً لمبادرتي الحياد والمؤتمر الدولي.

وهنا لا بد من سؤال: من هم مستشارو البطريرك الماروني؟ ولماذا وصلت بكركي الى موقع قد لا يخيف أحداً ويكاد لا يؤثر في أحد؟

ثمة من يقول ان الراعي، تلقى تحذيراً من الفاتيكان من مغبة التراخي حيال ما يصيب لبنان والمسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً، وحثه على التحول من راهب يكتفي بالصلاة وتدوير الزوايا الى “فارس” مستعد للقتال دفاعاً عن كنيسته وشعبه، وهو ما ظهر أخيراً في عظاته النارية والمباشرة التي تكاد لا توفر أحداً وفي مقدمهم “حزب الله” علناً وحلفاؤه المسيحيون ضمناً.

وتكشف مصادر قريبة من بكركي أن الراعي وصل الى مرحلة لم يعد قادراً فيها على المسايرة هنا والتروي هناك، خصوصاً بعد تلقيه معلومات مخيفة عن نسبة الهجرة المسيحية نحو الخليج والعالم الحر، وعن حجم التغيير الديموغرافي في المناطق المسيحية.

وتضيف أن الراعي، الذي كان واحداً من الميالين الى “الجنرال”، يشعر بخيبة عميقة مما آلت اليه الأمور في عهده، هو الذي طالما اعتبره منقذاً لا بد منه، وحيثية قوية قادرة على احياء الدور الماروني والمسيحي واستعادة هيبته التاريخية.

والى ذلك تقول المصادر ان الراعي يشعر بالمرارة حيال الانقسامات بين الأحزاب والتيارات المسيحية وعدم شعور بعضهم بالمسؤولية حيال قضايا مصيرية وفي مقدمها الاتفاق على رئيس للجمهورية بعيداً من الأنانيات والكيديات والنكايات.

ولعل هذه الانطباعات والخلاصات هي التي دفعت البطريرك الماروني الى القتال وحيداً من خلال عظات ومواقع لم تعد توفر أحداً لا في صفوف “الممانعة” ولا في صفوف المعارضة، موجهاً انتقادات مباشرة ولاذعة الى من يعطل النصاب ويسهم في ابقاء القصر الجمهوري فارغاً، وينطلق في حملة مباشرة وغير مباشرة ترويجاً لمشروع الحياد ومؤتمر دولي يعالج الأزمة اللبنانية بعدما تنازل الدستور عن بنوده لمصلحة الأعراف، وبعدما أصبحت الطينة التي تنجب رجالات دولة من فعل الماضي البعيد.

وتذهب مصادر أخرى على تواصل مع البطريرك بعيداً الى حد القول إن بكركي لم تعد ترى في الزعماء الموارنة من يمكن الرهان عليه أو الاعتماد عليه لتصحيح المسار الهابط سريعاً، معتبرة أنهم يملكون من الشوائب والنقاط السلبية ما يكفي لابعادهم جميعاً من مراكز صنع القرار أو من موقع الرئاسة الأولى.

وتستبعد المصادر أن يدعو الراعي القيادات المارونية الى اجتماع في بكركي لاتخاذ موقف موحد من موضوع الرئاسة، مشيرة الى أنه ينعى هذا المسعى مسبقاً ويتجه الى مزيد من التصعيد والمواقف المتصلبة.

وهنا لا بد من السؤال، ماذا يمكن أن يفعل البطريرك؟

هل يواصل الحرب وحيداً من دون تلك القيادات؟ هل يسمّي مرشحاً وحيداً ويرغم المسيحيين على تبنيه؟ هل يقفل أبواب بكركي في وجه المعطلين المتماهين مع “حزب الله” ومحور “الممانعة”؟ أسئلة كثيرة لا يمكن لأحد الاجابة عنها الا البطريرك نفسه، لكن الأمر الذي يمكن التأكد منه، أن الراعي أيقن أن مشكلته مع بعض المسيحيين هي أكثر قسوة من مشكلته مع بعض المسلمين، وأن الوقت حان ليرفع عصاه لا صوته ولا صلاته، انطلاقاً من المجد الذي أعطي لستة وسبعين بطريركاً من قبل، ومن الحرص على ألا يكون عهده عهد الكنيسة التي تنهزم أو الحلقة التي تنكسر.

شارك المقال