وليد جنبلاط سيبقى سنداً لتيمور في اللحظات المصيريّة!

جورج حايك
جورج حايك

لا أحد يستطيع أن ينكر زعامة وليد جنبلاط على الساحة الدرزية، حتى خصومه يقرّون بها، فهو يملك شعبية كبيرة لدى الدروز بعدما قادهم إلى انتصارات وانكسارات خلال الحرب، أما بعد اتفاق الطائف فأصبح رقماً صعباً في الحياة السياسية الوطنية، وغالباً ما لعب دور بيضة القبان من خلال تكتله النيابي، ينسج التحالفات مع بعض القوى السياسية حيناً ثم يقفز في مراحل أخرى ليصبح خصماً لدوداً لها أحياناً أخرى، وكل ذلك في سبيل حماية “جبله” الاستراتيجي الذي أراده آمناً ولو على حساب الخيارات الوطنية الكبيرة أحياناً.

طبعاً استقالة جنبلاط من رئاسة الحزب “التقدمي الاشتراكي” بعد 46 عاماً ليست حدثاً عادياً، فما شهدته هذه المساحة الزمنية تخللتها محطات مصيرية كبيرة، تنقّلت بين الحرب والسلم، ولا شك في أن الرجل بات مرهقاً ويحتاج إلى راحة وخصوصاً أنه تقدّم في السن، وهو حرص على نقل سلطاته الى إبنه تيمور تدريجاً، وانتظر طويلاً حتى اشتد ساعده، ومارس اللعبة السياسية كنائب ورئيس تكتل نيابي ووريث آل جنبلاط السياسي، لكن تيمور ليس نسخة طبق الأصل عن والده، فمنذ البداية أظهر الشاب روحيّة جديدة في التعاطي السياسي ورؤية جديدة في ما يخص الشأن العام. وما لا يعرفه كثيرون أن جنبلاط الأب وجنبلاط الابن يتباينان في كثير من القضايا، ولعل هذا السبب كان دافعاً للأب للانسحاب من المشهد السياسي وقد ساعده في ذلك نضجه وحكمته وقدرته على الاستبصار بأن الجيل الجديد المتمثّل بتيمور يحتاج إلى فرصة ليطبّق مقاربته السياسية، ولا سيما أن وليد جنبلاط يعرف أن السنوات تمضي ولم يبقَ مما يأتي إلا الجزء القليل، فمن الأفضل الذهاب إلى التقاعد والاكتفاء بأن يكون سنداً لتيمور في المحطات المصيرية الآتية من دون الزامه بأي شيء.

وعلى الرغم من الجدل حول طبيعة وليد جنبلاط “التقلبيّة”، لا يختلف اثنان على أنه كان يسعى دائماً الى أن لا يكون من بين الخاسرين، حساباته كانت تأخذ في الاعتبار التحوّلات الاقليمية، وتسمّى شعبياً بـ”رادار” جنبلاط الدقيق الرصد والتوقّع. فهو في الحرب اللبنانية كان مناصراً للقضية الفلسطينية، ودعم منظمة التحرير وياسر عرفات إلا أنه حيّد نفسه عنه خلال الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، ومع أنه كان يعلم بأن جيش النظام السوري برئاسة حافظ الأسد اغتال والده كمال جنبلاط، إلا أنه هادنه لفترة طويلة. وعندما لاحت رياح التغيير الدولية والاقليمية والمحلية مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، تمرّد جنبلاط على الاحتلال السوري وتحوّل إلى أشرس القياديين في حركة 14 آذار بمواجهة نظام بشار الأسد، وقيل وقتها إنه كان يعرف بأن القرار 1559 في طريقه إلى التنفيذ ما سيؤدي إلى تحرير لبنان. وبعدما كان في جبهة متناغمة مع السوريين و”حزب الله”، أصبح مقاوماً بارزاً لهم. دخل لبنان في زمن الاغتيالات لرموز من قوى 14 آذار، وكان مطلوباً رأس جنبلاط، تنبيهاته عن أمن اتصالات “حزب الله” في المطار أدى إلى 7 أيار، قبل أن يكتشف أنه انغمس في موقع “اليمين”، فقرر العودة إلى “اليسار” والخروج من 14 آذار، وربما عرف أن الاصطفاف لن يكون لمصلحة الطائفة الدرزية و”الجبل”، فقرر القيام بانعطافة قوية، جعلته في موقع وسطي عام 2009.

طبعاً تخلي جنبلاط عن 14 آذار أصابها بعطب أساس وجعل امكان استمرارها صعباً جداً، وسرعان ما تلاشت وبقيت روحها في وجدان الشعب. بعد ذلك، أعرب جنبلاط عن أسفه في العام 2010 لبشار الأسد على النعوت التي أطلقها عليه في وقت سابق، ولكن الثورة السوريّة التي اندلعت عام 2011 دفعته مجدداً إلى مهاجمة النظام السوري من دون أن يعني ذلك الانحراف إلى أقصى اليمين لبنانياً؛ إذ تمحور هذه المرّة في الوسط داخلياً، فتناول مجدداً بشار الأسد، ووصف نظامه بـ”الوحشي”، واعتبر أنّ “حزب الله” اقترف خطأ تاريخياً وأخلاقياً بالقتال إلى جانب النظام، وبخلاف كلّ الساسة اللبنانيين الذين يعادون بشار الأسد ونظامه، امتلك جنبلاط جرأة القول إنّ الأسد يحقّق الانتصار تلو الآخر، ولكنّه اعتبر أنّ هذا الأمر لن يدفعه إلى طرق أبواب دمشق مجدّداً.

وعلى الرغم من ملاحظاته على “عناد” حزب “القوات اللبنانية” السياسي المبدئي، تحالف معه في دورتين انتخابيتين عامي 2018 و2022، وبعد كل انتخابات يختلف معه في بعض المواقف ويلتقي معه في بعض المواقف الأخرى. أما في معركة رئاسة الجمهورية فاعتبر تكتل جنبلاط النيابي أحد مكونات المعارضة وخاض معركة المرشّح ميشال معوض معها، وسرعان ما قرر ترشيح أسماء وسطيّة غير مستفزة في محاولة لكسب اجماع كل الكتل النيابية المختلفة.

وفي صلب هذه المعركة، جاءت استقالة جنبلاط، داعياً إلى مؤتمر عام انتخابي في 25 حزيران المقبل، وكلف أمانة السر العامة إتمام التحضيرات اللازمة بحسب الآليات المعتمدة.

ويبدو أن الحمل سيصبح على كاهل نجله تيمور على نحو كامل، وكأن جنبلاط اليوم يكرر ما قاله في الذكرى الأربعين لاغتيال كمال جنبلاط عام 2017 حين خاطب نجله بعدما وضع كوفية الزعامة على كتفيه بالقول: “يا تيمور سر رافع الرأس، واحمل تراث جدك الكبير كمال، وأشهر عالياً كوفية فلسطين العربية المحتلة، كوفية لبنان التقدمية، كوفية الأحرار والثوار، كوفية المقاومين لاسرائيل أياً كانوا، كوفية المصالحة والحوار، كوفية التواضع والكرم، كوفية دار المختارة”.

لكن هل ستكون أولويات تيمور قضايا والده وجده؟ يبدو تيمور هادئاً، غير هاوٍ للاطلالات الاعلامية، وليس دينامياً في المواقف كوالده، لكنه يتمتع فعلاً بروح شبابية تغييرية، وربما يكون أكثر مبدئية بالمقارنة مع والده، مع ذلك تعلّم منه أن لا قداسة أو مقدسين في السياسة. وقد أثبت تيمور خلال الفترة القصيرة من تعاطيه العمل السياسي، رصانة ومقدرة على مقاربة الملفات والتحديات المطروحة، وليس بسبب خلاف بين الأب ونجله كما ذهبت تلك الأوساط أيضاً في تسويقها، وإن كانت التباينات في بعض الملفات قد برزت الى العلن، الا أنها لم تصل الى حد الخلاف كما يقول المحيطون بالرجلين. وحتماً ليس في اطار تبادل أدوار أو تنسيق كما يتراءى لبعض آخر يسعى الى فهم العلاقة القائمة بينهما.

وفي مقدمة هذه الملفات يأتي ملف رئاسة الجمهورية الذي يميل فيه تيمور إلى المعارضة، ولا سيما “القوات اللبنانية” و”الكتائب”، فيما والده أخذ مسافة عن المعارضة وتموضع في موقع وسطي. وليس مستغرباً أن وليد جنبلاط عُرِفَ بواقعيته، وأهم ما يمكن أن ينتظره من نجله هو الاستمرار في هذه الواقعية حماية للجبل، إلا إذا كان همّ تيمور وطنياً أكثر منه مناطقياً. وربما سيخسر الحزب “التقدمي الاشتراكي” بعد اعتزال جنبلاط تلك العلاقة الثنائية المتينة مع الرئيس نبيه بري، ولا يزال مبهماً إذا كان جنبلاط الأب ورّث إبنه علاقاته السياسية الداخلية والخارجية. لن يكون تيمور الحرّ من خيارات والده، متساهلاً مع ترشيح سليمان فرنجية.

لكن في النهاية يُقال إن الابن سر أبيه، فكما كان وليد جنبلاط هو سر أبيه الراحل كمال جنبلاط الذي كان معروفاً بمناوراته السياسية الفذة، وكان زعيماً استثنائياً بشخصيته القيادية وعلمه وفكره وثقافته وفلسفته التي يعترف بفرادتها خصومه ومحبوه، يُقال إن تيمور سيكون سرّ أبيه السريع في بناء الجسور ولكنه أيضاً سريع في هدم هذه الجسور، فالسياسة لديه ليست فن الممكن، بل فن اللحظة، والسياسة بالنسبة إليه على طريقة “أنا السياسة، السياسة أنا” متخطياً ميكيافللي في هذا المجال.

فهل يستطيع تيمور أن يتجاوز ضيق مساحة المكان وأن يمدد زعامته على مساحة الوطن بأسره، وأن يكون عضواً فاعلاً ومؤثراً فيه؟ فوليد جنبلاط يستطيع بتصريح صغير لاحدى وسائل الاعلام المسموعة أو المقروءة على السواء أن يرفع من حرارة الوطن إلى درجة الخطر وبإمكانه أن يخفضّ دقات قلب الوطن إلى ما دون الخطر!

لكن مهما واجه تيمور جنبلاط من صعوبات في المستقبل القريب، سيجد والده سنداً له، فلا يستطيع وليد جنبلاط أمام منعطفات خطيرة أن يبقى في نقاهة الزعيم المتقاعد جالساً في مكتبته يقرأ الكتب ويمشي في حدائق قصره في المختارة، بل سيلبي نداء تيمور وأنصاره في الجبل عندما سيشعر بأي حاجة الى التدخّل.

شارك المقال