الإصلاح أولا ً.. كي لا يصبح “لبنان الكبير” دولة فاشلة

المحرر الاقتصادي

13 نيسان 1975 كانت بداية شرارة الحرب الأهلية ونهاية مرحلة ازدهار اقتصادي استثنائية عاشها لبنان لعقود من الزمن، كان خلالها نموذجاً استثنائياً في محيطه العربي.

لا شك أن اللبنانيين من مختلف أطيافهم لا يزالون يخبئون في خزنات ذكرياتهم صوراً ومشاهد وأوجاعاً عن تلك الحقبة البشعة، التي دمرت لبنان واقتصاده وحصدت الالاف من الأرواح وهجرت الالاف من الأدمغة وعطلت عمل المؤسسات الرسمية. فترة شهد لبنان خلالها تآكلاً مريعاً لقاعدته الاقتصادية، وانهياراً لقطاع الخدمات، وانحداراً مدمراً لمستويات قطاع الصناعة وقواعده الانتاجية، وخسارةً لقدرات قطاع الزراعة التنافسية ولجزء كبير من طاقته الانتاجية، وشللاً كبيرا في قطاع السياحة.

هذا التدهور الكبير في المقومات الاقتصادية تسبب في حصول قفزات تضخمية تاريخية، حيث اجتاز معدل التضخم عتبة الـ 120 في المئة، وفي ارتفاعٍ غير مسبوق لمستويات البطالة، ما أفقد الثقة بالليرة التي وصل سعر صرفها الى حدود 2800 ليرة لكل دولار أميركي.

وقدّر البنك الدولي الاضرار المادية الاجمالية التي تكبدها لبنان خلال تلك الحرب بـ25 مليار دولار، أي ما يفوق تسعة أضعاف الناتج المحلي الاجمالي للبنان في العام 1990 والذي كان يبلغ 2.8 ملياري دولار في حينه.
هكذا كانت المشهد عليه قبل تشكيل الرئيس الشهيد رفيق الحريري حكومته الأولى عام 1992. لكن الرئيس الحريري كان مصمماً على إزالة بصمات الحرب، فوضع رؤية إصلاحية شاملة شكّلت القاعدة الأساس لإطلاق مشروعه لإعادة الاعمار وتطوير البنى التحتية وتحديثها، بهدف استعادة الخدمات الأساسية في البلاد لينطلق بعدها الى إعادة تفعيل الاقتصاد وتعزيز عمل الادارة، بما ساهم في أن ينعم لبنان بالاستقرار وأن يلعب دوراً على الساحة الدولية.

أزمة اليوم

المشهد المأزوم اليوم شبيه الى حد بعيد بفترة الحرب، وإن تكن أرقامها أكثر حدة بكثير. فلبنان يمر منذ العام 2019 بأسوأ أزمة اقتصادية نقدية مالية مصرفية اجتماعية وسياسية تهدد استقراره منذ حربه الأهلية، زادتها وطأة جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت الكارثي عام 2020 تزامناً مع الذكرى المئوية لقيام “دولة لبنان الكبير”.

الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان مصمماً على إزالة بصمات الحرب، فوضع رؤية إصلاحية شاملة شكّلت الأساس لإطلاق مشروعه لإعادة الاعمار وتطوير البنى التحتية وتحديثها.

هذه الأزمة المركبة التي تغذت ولا تزال، من الخلافات السياسية المستفحلة، ليست وليدة الساعة، إنما يعود ترسيخ جذورها الى وقائع حصلت في السنوات السابقة وتسببت في إغلاق مصادر التمويل التي كانت متاحة للبنان واستقطابه للعملات الأجنبية التي يحتاج اليها لتأمين حاجاته التمويلية.

ونعود بالذاكرة هنا الى مرحلة بدء العمل على تهميش المشروع الاقتصادي للرئيس الحريري مع انتخاب العماد اميل لحود رئيساً للجمهورية عام 1998 واعتماد سياسات تعطيل هشّلت المستثمرين وأفقدت الثقة بالاقتصاد وأعادت عقارب النمو الى الوراء. وبعدها بسنوات حين تحول “حزب الله” – بقوة سلاحه والدعم الإيراني اللامتناهي له – الى الحزب صاحب النفوذ الأقوى في لبنان، ولا سيما بعد انسحاب النظام السوري وتموضع الحزب مكانه، وهو ما كانت له تداعياته السلبية على نمو الاقتصاد. فمثلا، وفيما كان لبنان في العام 2006 يظهر بعد اغتيال الرئيس الحريري بوادر نهوض صحية وواثقة على صعيد الاقتصاد الوطني، ويتطلع إلى تسجيل أعلى نسب النمو في شتى قطاعاته الاقتصادية، وبينما كانت الحكومة تستعد لتقديم سلة إصلاحات اقتصادية واجتماعية خلال “مؤتمر باريس 3″، أخذ “حزب الله” قرار الحرب على اسرائيل من دون العودة الى الدولة ودفع بالاخيرة لتشن عدواناً عسكرياً كبيراً على لبنان قضى خلال أيام على كل الإنجازات التي تحققت خلال 15 سنة من الإنماء، وألحقت أضراراً بمليارات الدولارات.

ونذكر أيضا بمقاطعة الوزراء الشيعة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة في 2005 واستقالتهم منها في 2006 ما ادى الى اقفال مجلس النواب لحوالي السنتين مع ما استتبع ذلك لتوقف في الحياة التشريعية رغم الحاجة الماسة الى اقرار قوانين ملحة، وبـ7 أيار وما رافقها من اعتصامات 8 آذار في رياض الصلح، وتدخل “حزب الله” في الحرب السورية عام 2011 التي ادت الى نزوح قُدّرت تكلفته على لبنان بحوالي 20 مليار دولار…

وفي هذا الوقت، كان “التيار الوطني الحر” قرر منذ العام 2011، أي بعد الانقلاب على الحكومة الاولى للرئيس سعد الحريري، إحكام قبضته على مفاصل الدولة بعدما بات همّه الأكبر تثبيت سلطته، آخذاً بالتكافل والضامن مع حيلفه “حزب الله” القرار الاقتصادي رهينةً لقراراتهما السياسية الخاطئة. وهذا ليس افتراء. فالارقام والمؤشرات الاقتصادية لا تكذب. هي ترسم الحقائق وتبنيها بما لا يقبل الشك. مثالٌ ودليل على ما نقوله:

– التنامي الكبير في حجم الدين العام والانخفاض الحاد في معدل النمو الاقتصادي وتداعياته على تراجع التحويلات والاستثمارات الأجنبية وتباطؤ نمو الودائع والنشاط الاقتصادي. فالدين العام زاد بواقع 4 مليارات دولار في العام 2012، وهي كانت أكبر زيادة في عام واحد منذ 20 عاماً، وارتفع في ست سنوات بين 2012 و2018 بنسبة تعدت الـ60 في المئة. في المقابل، تباطأ النمو إلى نطاق ما بين 1 في المئة و2 وما دونهما بين الأعوام 2011 و2018، بعد أربع سنوات من متوسط نمو 8 في المئة، ليسجل اليوم بفعل حدة الازمة التي نعاينها انكماشا بـ25 في المئة (وفق تقديرات صندوق النقد الدولي).

كان “التيار الوطني الحر” قرر منذ العام 2011 إحكام قبضته على مفاصل الدولة بعدما بات همّه الأكبر تثبيت سلطته، آخذاً بالتكافل والضامن مع حيلفه “حزب الله” القرار الاقتصادي رهينةً لقراراتهما السياسية الخاطئة

– السياسة الخارجية التي اعتمدها “التيار الوطي الحر” والتي دفعت بعدد من دول مجلس التعاون الخليجي الى حظر مجيء رعاياها، ما أصاب بالصميم القطاع السياحي الذي يشكل مصدراً رئيسياً للدخل والتوظيف. فقد شهدت أعداد السياح تراجعاً كبيراً في عامي 2012 و2013 فاقت نسبتها الـ40 في المئة بعدما كانت سجلت رقماً قياسياً تجاوز المليوني سائح في 2010 ولم تصل اليه مجدداً الى اليوم. كما تراجع الدخل المباشر وغير المباشر المتأتي من هذا القطاع من نحو 8.5 مليارات دولار عام 2010 الى نحو 5 مليارات دولار عام 2018.

كما طالت شظايا هذه السياسة، استثمارات عربية وخليجية مهمة انسحبت من لبنان ومن مصارفه ومن سوقه العقارية التي كانت تمثل بلا شك حجماً إستثمارياً لا يستهان به.

ولا ننسى الشلل المحكم الذي أصاب معظم مؤسسات الدولة بفعل مسلسل الفراغات الرئاسية والحكومية، التي يقدر خبراء اقتصاديون تكلفتها السنوية بما لا يقل عن المليارين ونصف المليار دولار.

واليوم، لا يزال التعطيل مستمراً رغم مضي ثمانية أشهر على استقالة حكومة الرئيس حسان دياب. فهل يدرك المسؤولون عن إدارة البلاد أننا لم نعد نملك ترف الوقت، وأن الشريحة الكبرى من اللبنانيين باتت فقيرة وتعاني الذل لتحصل على حاجاتها الأساسية، وأن الاقتصاد بلغ القعر، وأن التأخر في عملية انتشاله سيعقّد الامور أكثر مما هي اليوم ويجعلها أشد إيلاماً على الجميع؟

إن خارطة الطريق لوقف هذا التدهور الكبير والسريع، واضحة ومعروفة: تشكيل فوري لحكومة مؤلفة من اختصاصيين تقود البلاد نحو بر الأمان وتستعيد ثقة المواطنين، قادرة على فرملة الانهيار الاقتصادي ووقف نزيفه، وعلى بدء اطلاق اصلاحات فورية يطالب بها المجتمع الدولي، وتطبيق بنود المبادرة الفرنسية، وإعداد خطة للانقاذ المالي تفتح كوة التفاوض مع صندوق النقد الدولي. اذ لا خلاص لبنان من دون الصندوق. فالتوقيع معه على برنامج دعم مالي هو المنقذه الوحيد وباب الأمل الى بدء كسب ثقة المجتمع الدولي.

توازياً، فإن إعادة الثقة بالقطاع المالي والمصرفي وعودة الانتظام إلى المالية العامة هي من أهم التحديات الاقتصادية التي يواجهها لبنان في المرحلة المقبلة. فلا يمكن اطلاق عملية إعادة الاعمار من دون قطاع مصرفي سليم، كما لا يمكن لدولة أن تستمر من دون مصرف مركزي قوي.

ختاما، إن تطبيق هذه الخارطة جوهري من أجل قيامة لبنان وإعادة النبض الى اقتصاده. فمن دون اصلاحات جذرية وفورية سيصبح بلدنا بلا شك دولة فاشلة. أفلا يستحق اللبنانيون أن يعيشوا عيشة كريمة ولائقة وأن يحلموا بوطن يحضن أحلامهم ويزرعها في أرض خصبة لأجيالنا المقبلة؟

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً