صندوق النقد للبنان: الحلول “ع القطعة” لا تحل الأزمة

المحرر الاقتصادي

هل ما زال لبنان قادراً على تجنب الانهيار التام؟ وكيف يمكن إدارة الأزمة الاقتصادية لتجنب المحظور؟ فنحن نعيش انهياراً مالياً واقتصادياً غير مسبوق في نطاقه وحجمه وسط معاناة اجتماعية وصحية واسعة النطاق. وستؤدي المماطلة في تحريك الجمود السياسي إلى مسار أكثر تكلفة وأكثر إيلاماً على الشعب لتحقيق الاستقرار وبلوغ الانتعاش.

ثمانية أشهر مضت على تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة كان يفترض أن تكون مهمتها الأساسية وقف الانهيار والنزيف المالي ليصار إلى الانتقال في مرحلة لاحقة إلى التعافي، من دون إحراز أي تقدم. وفي الأثناء، كان حجم الأزمة التي فاقمها تفشي فيروس كورونا وانفجار مرفأ بيروت، يزداد تعقيداً والناس يزدادون فقراً وعوزاً، والوضع الصحي يصبح مخيفاً ومقلقاً في آن. الناس طوابير على محطات البنزين، وعلى الصيدليات حيث معظم الأدوية باتت مفقودة، فيما لم يعودوا قادرين على تأمين حاجاتهم الأساسية من المأكل بسبب الارتفاع الجنوني في الأسعار.

المشهد المخيف هذا لم يدفع بمن يفترض به أن يدير البلاد إلى التحرك لوضع حد له، عبر الموافقة على تشكيل حكومة من الاختصاصيين الملمين بملفاتهم. فيما العالم بأجمعه ينادي بهذا الإجراء كانطلاقة أمام دعم لبنان.

كما العواصم الخارجية، يعتبر صندوق النقد والبنك الدوليان أن بداية طريق الحل يجب أن تكون بتشكيل حكومة قادرة على صوغ استراتيجية من شأنها أن تؤسس لمستقبل لبنان. هما في الوقت ذاته متخوفان من أن يؤدي الاستمرار في حال المراوحة السياسية بالشعب اللبناني إلى منزلاقات أكثر خطورة اجتماعياً، قد تصل بلبنان الى مستوى الدول القليلة في العالم من حيث عمق حالات الفقر فيه. يبديان دوماً استعدادهما لمساعدة لبنان على تجاوز هذه المرحلة الأخطر من تاريخه الاقتصادي، فيما رأيهما موحد بالطبع في شأن مخاطر الاستمرار بالدعم.

الباب لم يُقفل أمام الحل، بحسب صندوق النقد الدولي الذي عقد العام الماضي بعض الاجتماعات مع ممثلين في وزارة المال ومصرف لبنان قبل تعليقها نتيجة الخلاف الداخلي على الأرقام المالية. الا أن الحل لن يكون سهلاً أبدا نظراً الى حجم الأزمة غير المسبوقة وشديدة التعقيد التي يمر بها لبنان، والتي لا تقتصر على كونها اقتصادية ومالية فقط إنما إنسانية بكل المقاييس. وسترتفع تكلفة هذه الأزمة الباهظة جداً أصلاً على الشعب اللبناني في حال تأخرت مبادرات الخروج منها.

يرى نائب مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي أثاناسيوس أرفنيتيس، في ندوة افتراضية نظمها معهد الشرق الأوسط، أن أولويات الخروج من الوضع الراهن تقتضي تكثيف الجهود من أجل صوغ استراتيجية لإصلاح القطاع العام والمالية العامة والمصرف المركزي والنظام المالي وإعادة بناء الاقتصاد على أساس متين.

هذه الاستراتيجية الشاملة يفترض أن تتألف من أربعة عناصر هي:

-أولاً: استراتيجية للمالية العامة تكون مرتكزة على إصلاحات مالية قابلة للتطبيق. بمعنى آخر، على الحكومة تطبيق هذه الإصلاحات سيما وأن لبنان يعاني مشكلات كبيرة على صعيد المالية العامة. فالإيرادات الحالية ضعيفة جداً فيما النفقات مرتفعة (ولكن في المقابل على الحكومة أن تنفق من أجل توسيع نطاق الحماية الاجتماعية وإعادة بناء البنى التحتية المنهكة منذ سنوات). لبلوغ هذا الهدف، على لبنان التوصل الى وضع يضع نظاماً ضريبياً عادلاً جديداً وإطاراً مالياً أكثر شفافية، وفي الوقت نفسه ترشيد النفقات وخصوصاً في جانب الدعم.

-ثانياً: وضع استراتيجية واضحة ومفهومة لإعادة إصلاح النظام المالي تطال المصرف المركزي والمصارف التجارية. على صعيد المصرف المركزي، هناك حاجة لتقييم واضح وشفاف لميزانيته، ويجب على خطة إعادة الرسملة أن تؤكد أن لدى المصرف المركزي الصدقية والقدرة على تأدية وظائفه. أما المصارف التجارية، فهي متضررة كثيراً نتيجة الحجم المتنامي للقروض المشكوك في تحصيلها في ظل الانكماش الاقتصادي الراهن. هذه الاستراتيجية يجب أن تحدد بوضح آلية إصلاح النظام المصرفي، من حيث تقييم كل مصرف على حدة، ليصار بعدها إلى تحديد المصارف القابلة للاستمرار وإعادة رسملتها، وحل تلك غير القابلة للحياة.

-ثالثاً: وضع نظام سعر صرف نقدي ذي صدقية يمهد له بتوحيد أسعار الصرف التي يتم التداول بها اليوم. وفي الوقت الانتقالي، هناك حاجة الى قانون كابيتال كونترول لدعم عملية التصحيح والسعي إلى استعادة الثقة.

-رابعاً: دعم القطاع الخاص والعمل على تسهيل وتطوير عمله لما له من دور في تحقيق معدلات النمو التي يحتاج لبنان إليها.

وكان صندوق النقد الدولي توقع أن يسجل النمو الاقتصادي في لبنان انكماشاً بنسبة 9 في المئة في 2021، بعد تراجع نسبته 25 في المئة في العام 2020. ولبنان هو البلد الوحيد في المنطقة الذي يتوقع أن يشهد نشاطه المزيد من الانكماش هذا العام والذي يعكس عمق الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها والتي فاقمتها جائحة كورونا.

صحيح أن هذا العوامل الأربعة التي تشكل مضمون استراتيجية خروج لبنان من أزمته، أساسية لكنها غير كافية. فصندوق النقد الدولي ناقش سابقاً، كما غيره من المؤسسات الدولية، العديد من الخطط التي وضعها لبنان. كانت جيدة، يقول مسؤول الصندوق، لكن المشكلة في التطبيق. “لذا من المهم جداً أمام الحكومة اللبنانية أن تجمع الدعم الضروري لتطبيق استراتجية تكون ذات صدقية يلعب الوقت عاملاً محورياً فيها. فكلما أطالت الحكومة اللبنانية في صياغة هذه الاستراتيجة وفي تطبيقها، كلما باتت التكلفة أكبر على اقتصاد لبنان وعلى شعبه”.

المسؤول الدولي يرفض الحلول المجتزأة. فهي لن تساعد لبنان على الوقوف على رجليه مجدداً والخروج من الأزمة العميقة التي يعانيها مع إقراره أن حلها لن يكون سهلاً. بنظره، فإن الحلول “على القطعة” التي تعتمد اليوم ستؤجل المشكلة فقط. يبدي في المقابل استعداد الصندوق للعمل مع أي مؤسسة دولية أخرى ومع المانحين من أجل الوصول الى صياغة هذه الاستراتيجية لتكون قابلة للتطبيق، معلناً استعداد الصندوق للتعاون مع الحكومة المقبلة لإخراج لبنان من محنته التي يرى أن تخفيف عبء الديون فيها هو أمر جوهري من أجل أن يستعيد عافيته مضافاً الى دعم مالي خارجي من المؤسسات الدولية أو من المانحين.

 

البنك الدولي

المدير الإقليمي لدائرة المشرق في مجموعة البنك الدولي، ساروج كومار جا، الذي شارك في الندوة نفسها، أبدى استغرابه الشديد من أداء المسؤولين اللبنانيين وعدم تحملهم مسؤولياتهم من أجل وضع حد لمعاناة الشعب اللبناني الذي “يعيش أخطر أزمة فقر في تاريخه”. فبحسب تقديرات العام 2020، حصل ارتفاع في نسبة الفقر بين اللبنانيين من 28 في المئة في 2018 إلى 55 في المئة، فيما تضاعفت نسبة الفقر المدقع ثلاث مرات من 8 في المئة إلى 23 في المئة.

وتكمن أولوية البنك الدولي في مساعدة الفقراء في لبنان والذين تتفاقم أعدادهم يومياً. وقد أقر البنك الدولي منذ فترة طويلة قرضاً لمساعدة العائلات الأكثر فقراً، “فكيف لا يتفقون هنا على مساعدة الناس والحد من وجعهم؟”.

للتذكير، فإن لبنان وقع مع البنك البنك الدولي في كانون الثاني 2021، على اتفاقية قرض بقيمة 246 مليون دولار لدعم برنامج دعم الفقر وشبكات الأمان الاجتماعي. وفي 12 آذار، أقر مجلس النواب قانوناً بشأن اتفاقية القرض بعد ادخال تعديلات عليها اعتبرت غير قانونية، لأن صلاحية مجلس النواب في هذا الخصوص تقتصر على الموافقة على اتفاقية القرض كما هي أو رفضها. فكان أن أرسلت الصيغة الجديدة من الاتفاقية إلى مجلس أمناء البنك الدولي للنظر في إمكان الموافقة عليها، فيما المعلومات تتحدث عن تعليقها راهناً.

كان لافتاً إبداء كومار جا قلقه الشديد على جيل الأطفال الذين لم تعد تتوافر أمامهم أساليب التعليم السليم. هو ينبه من مخاطر أن يفقد لبنان ميزة التعليم التي كانت تضعه في مراتب عليا في منطقة الشرق الأوسط. ويرى أن أي حل سياسي يجب أن يأخذ في الاعتبار كيفية العمل على إنقاذ هذا القطاع. علماً أن لبنان كان احتل المرتبة الثالثة عربياً بعد قطر والإمارات في مؤشر جودة التعليم في العام 2019.

وكانت منظمة أنقذوا الأطفال “سايف ذي تشيلدرن” حذرت من “كارثة تربوية” في لبنان، حيث يواجه الأطفال من الفئات الأكثر هشاشة خطراً حقيقياً بالانقطاع نهائياً عن التعليم. وقدّرت عدد الأطفال الموجودين خارج مدارسهم منذ بدء تفشي فيروس كورونا قبل عام، بأكثر من 1,2 مليون طفل.

 

 

 

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً