“لبنان يغرق”.. هل ترمى له سترة النجاة الدولية؟

المحرر الاقتصادي

نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فريد بلحاج الذي يعرف لبنان وطبيعة اقتصاده والمشكلات والتحديات التي يعانيها بشكل دقيق ومعمّق، كونه شغل منصب مدير البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط ومسؤولاً عن برامج عمله في لبنان وسوريا والأردن والعراق وإيران، ومقره بيروت، بين سنوات 2012 و2017، زار لبنان الأسبوع الماضي بعد أكثر من عام على آخر زيارة له بسبب تفشي فيروس كورونا تزامناً مع صدور مرصد البنك الدولي حول لبنان الذي حمل عنوان “لبنان يغرق”، وذلك في محاولة منه لاستئناف الحوار مع لبنان حول البرامج المتاحة لدى البنك الدولي التي يمكن للبنان أن يستفيد منها، وليكوّن شخصياً صورة ملموسة عن الوضع الاقتصادي اللبناني والمستوى الذي بلغته السياسة المالية والنقدية في لبنان بعد عام يمكن وصفه بالأكثر من صعب وُسم بانفجار مرفأ بيروت الكارثي في ظل “لامبالاة” غريبة للمسؤولين اللبنانيين.

طيلة السنوات العشر الأخيرة، حاول صندوق النقد والبنك الدوليان، من خلال التقارير الدورية التي كانا يصدرانها أو من خلال الرسائل “الناعمة” التي كانا يرسلانها، أن ينبها المسؤولين إلى مخاطر الأزمات التي كانت بدأت تطل برأسها لكن دون أن تلقى آذاناً صاغية.

اليوم، قرر البنك الدولي أن يرفع نبرته ويحذر من أنه في حال الاستمرار على هذا المنوال، فإن لبنان يتجه إلى أن يكون دولة فاشلة لأن الدولة والمسؤولين فيها غير مبالين بالدرك الذي بلغه شعبها.

حين بدأت الحرب السورية وبدأ لبنان يستقبل النازحين السوريين عام 2011، سارع البنك الدولي في مرصده الاقتصادي حول لبنان إلى التنبيه من أن الخلافات العميقة بين القوى السياسية اللبنانية (بعد الانقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري في العام 2011 والخلافات بين 14 آذار و8 آذار) تقوض الإصلاحات الضرورية فيما الأزمة في سوريا تفرض على لبنان عواقب اقتصادية وأمنية وسياسية لن تحمد عقباها. وأشار حينها إلى أن الازمة السورية تلقي بثقلها بشكل متفاقم على المالية العامة، التي ما عادت تتحمل بسبب ضعفها أساساً.

في ربيع العام 2014، كان للبنك الدولي تقرير آخر حمل عنوان “الضغوط المتنامية في اقتصاد مقاوم”، نبّه فيه إلى أن “التوسع المالي الذي شهده الاقتصاد اللبناني في العام 2012 (حين قامت حكومة ما عرف بالقمصان السود بإنفاق في عام واحد فاق ما تم إنفاقه مجتمعاً في سنوات) خلق تحديات كبيرة بالتزامن مع وعود لزيادة الرتب والرواتب التي حذر البنك الدولي مراراً من أنها ستفاقم مشكلة المالية العامة في لبنان إذا لم يصر إلى تأمين الموارد والايرادات لتمويلها.

في خريف 2014، والى جانب إشارته المتواصة إلى تداعيات الازمة السورية على اقتصاد لبنان وعلى نسيجه الاجتماعي، كان لافتاً أن يشير البنك الدولي إلى أن التباطؤ الاقتصادي والاضطرابات الداخلية والاقليمية أثرت على النشاط المصرفي، حيث تراجعت حركة الائتمان، لكنه في المقابل أشار إلى أن لدى المصارف اللبنانية نسبة سيولة عالية وهي قادرة على التصدي للصدمات.

في العام 2016، وضع البنك الدولي تقريراً حول الاقتصاد الجغرافي والمخاطر المتنامية التي يواجهها. وبالتوازي، وضع فريقه في بيروت ورقة شاملة مع فريق عمل حكومة الرئيس سعد الحريري تضمنت لائحة من الإصلاحات الآنية ومتوسطة وبعيدة الأجل الواجب إقرارها وتطبيقها من أجل مواجهة المخاطر الآنية والمستقبلية المحدقة بلبنان.

“نداؤنا لكم” كان عنوان تقرير العام 2017 والذي جاء بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية حيث قدم البنك الدولي قائمة من الإصلاحات التي من شأنها أن تمكّن البلد من طي صفحة التقاعس والانحدار بسرعة وبشكل ملحوظ والعودة إلى مسار الازدهار والتنمية الشاملة.

في 2018، أطلق البنك الدولي تقرير “تقليص مخاطر لبنان” قدّم فيه نظرة مستقبلية للاقتصاد اللبناني على المدى المتوسط بما في ذلك مستجدات الاقتصاد الكلي والأسواق المالية ومؤشرات رفاه الإنسان والتنمية. في هذا التقرير، عرض البنك الدولي لوضع الكهرباء، بوصفها أم المشكلات، والتي تتطلّب إصلاحات لا بدّ منها لإعادة الأمل إلى الشباب. وأشار في خلاصاته إلى أن لبنان معرّض لمخاطر الحدّ من قدرته على تمويل العجوزات المالية والتجارية، كنتيجة لتراجع قدرته على جذب الودائع، بالإضافة إلى أن استمرار التباطؤ في النمو الاقتصادي الذي يحرّك بالاستهلاك وبالقطاعات الخدماتية.

واستمر موقف البنك الدولي في التصاعد إلى أن أصدر في العام 2020 تقريره الذي حمل عنوان “الكساد المتعمد” حمل تحذيراً واضحاً لا لبس فيه من أن الأزمة الاقتصادية الحادة في لبنان جعلت الاقتصاد عرضة لكساد شاق، وصفه بـ”المتعمد” مع إخفاق السلطات في احتواء الانهيار، وداعياً إلى تشكيل حكومة تنكبّ على تنفيذ برنامج إصلاح شامل على وجه السرعة. كما اعتبر أن “الافتقار المقصود إلى إجراءات سياسية فعالة من جانب السلطات أدى إلى تعريض الاقتصاد لكساد شاق وطويل”، مشدداً على أنّه “يتعيّن على الحكومة الجديدة أن تنفّذ على وجه السرعة استراتيجية ذات مصداقية لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد الكلي، مع اتخاذ تدابير قصيرة الأجل لاحتواء الأزمة، فضلاً عن اتخاذ تدابير متوسطة إلى طويلة الأجل للتصدي للتحديات الهيكلية”.

اليوم، يصدر البنك الدولي تقريره وفيه تحذير من وصول البلاد إلى مستوى خطير. اذ حمل عنوان “لبنان يغرق” اعتبر فيه أن الأزمة الاقتصاديّة والمالية التي تضرب لبنان هي من بين الأزمات العشر، وربّما من بين الأزمات الثلاث، الأكثر حدةً عالمياً منذ أواسط القرن التاسع عشر. وقد تراجع الناتج المحلي الاجمالي في لبنان من حوالى 55 مليار دولار في العام 2018 إلى حوالى 33 ملياراً في العام 2020 مع تراجع الناتج المحلي الإجمالي للفرد بالدولار الأميركي بنسبة حوالى 40 في المئة. غالبًا ما يُعزى مثل هذا الانقباض القاسي والسريع إلى نزاعات أو حروب. وجاء فيه: “لطالما صنّف البنك الدولي لبنان على أنّه دولة هشاشة، ونزاع، وعنف. وبالتالي، قد تُهدّد الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتردية بانهيار وطني منهجي تكون له انعكاسات محتملة على المستويَيْن الاقليمي والعالمي، ما يُجسّد حجم الكساد الاقتصادي الذي يشهده البلد، من دون بارقة أمل بتغيير تلوح في الأفق، نظراً إلى التقاعس المتعمد عن اتخاذ السياسات الملائمة.. قد يُصبح الأثر الاجتماعي للأزمة، الصعب أصلاً، مأسويًا بسرعة؛ يُرجَّح أن يكون أكثر من نصف السكان دون خط الفقر الوطني”.

بلحاج يدق ناقوس الخطر

مسؤول البنك الدولي يبدي خلال ندوة افتراضية أجراها قبل مغادرته لبنان مع معهد الشرق الأوسط، حرصاً شديداً على بلورة ايجابية تعاطي لبنان مع النازحين السوريين، علماً أن المبالغ التي خصصت له لهذا الغرض كانت زهيدة خلافاً مثلا لما حصل عليه الأردن الذي بدوره استقبل الآلاف منهم. فاستجابة المجتمع الدولي لأزمة لبنان كانت دون المتوقع ولم تلب حاجة لبنان الذي دفع هو الثمن واضطر إلى الاقتراض من أجل النازحين.

مع تفاقم الازمة في لبنان، سعى البنك الدولي إلى ضخ الأموال في الاقتصاد من أجل مساعدة اللبنانيين على الصمود، حيث تشير الأرقام التي نشرت أخيراً إلى أن أكثر من 55 في المئة من الشعب اللبناني بات في عداد الفقراء. لذا، فالحديث بين البنك الدولي ولبنان اليوم هو بحث كيفية تأمين دعم مالي سريع لهؤلاء لمساعدتهم على تخطي هذه الأزمة المركبة من جهة، ولمنح الحكومة هامش التحرك من أجل بدء القيام بالإصلاحات التي يحتاج إليها الاقتصاد من جهة أخرى. “للأسف، فان هذا الدعم المالي الذي وفرناه للبنان (246 مليون دولار) لا يزال عالقاً في مكان ما”، يقول بلحاج بانزعاج. وهو ما يمثل إحباطاً وغضباً لدى البنك الدولي الذي يعتبر أنه في ما لو أنجز لبنان الإصلاحات التي نادى بها البنك الدولي عشرات لا بل مئات المرات لما وصل إلى هذا المستوى. ففي الوقت الذي كان على لبنان أن يطلب دعماً مالياً خارجياً من أجل مشاريع تنموية مثلاً، هو اليوم يطالب بدعم وبمبالغ نقدية بغرض المأكل والمسكن.

بالنسبة إلى بلحاج، فان التقريرين الأخيرين اللذين أصدرهما البنك الدولي يؤشران بوضوح إلى أنه لا يمكن للبنان الذي “يواجه اليوم أمراً غير مسبوق في مختلف أنحاء العالم” أن يستمر في المنكافات السياسية وفي عدم تشكيل حكومة. التوقعات تشير إلى انكماش الناتج المحلي الحقيقي الإجمالي بنسبة 9,5 في المئة في العام 2021. وفي المقابل، هناك حالة “من اللامبالاة” و”تقاعس متعمد” لعدم ايجاد حلول وإنقاذ لبنان من الغرق.

ما يحتاج إليه لبنان اليوم هو:

– نظام جديد من الحوكمة، حيث يمكن تطبيق التشريعات والقوانين بطريقة متساوية بين الجميع.

-إعادة بناء عقد جديد بين الدولة ومواطنيها. إذ لم يعد من الممكن الاستمرار في تحمل الأعباء المالية لنظام الدعم العام لمنتجات الطاقة والغذاء، فيما عليها في المقابل توفير إمكانية الحصول على الحماية الاجتماعية للجميع بطريقة عادلة وشفافة ومستدامة.

-برنامج لإعادة هيكلة الديون يهدف إلى تحقيق القدرة على تحمل أعباء الديون على المدى المتوسط، وإعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي لاستعادة ملاءة القطاع المصرفي، وإطار جديد للسياسة النقدية لإعادة بناء الثقة والاستقرار في أسعار الصرف، وإجراء تصحيح تدريجي لأوضاع المالية العامة من أجل استعادة الثقة في سياسة المالية العامة، وإصلاحات معزِّزة للنمو.

-نظراً إلى حالة الإعسار في لبنان (الديون السيادية، والنظام المصرفي) وافتقاره إلى احتياطات كافية من النقد الأجنبي، فإن المساعدات الدولية والاستثمارات الخاصة تمثل ضرورة لا غنى عنها لتحقيق التعافي الشامل. وسيتوقف مدى وسرعة تعبئة المساعدات والاستثمارات على ما إذا كان بإمكان السلطات ومجلس النواب في لبنان العمل سريعاُ على إصلاحات المالية العامة وإدارة الحكم والإصلاحات المالية والاجتماعية التي تشتد الحاجة إليها. ومن دون ذلك، لا يمكن تحقيق التعافي وإعادة الإعمار على نحو مستدام، وستستمر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في التدهور.

– الدعم: لا يمكن الانتقال من نظام يعتمد على الدعم إلى آخر مرفوع الدعم عنه لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها. هي عملية يجب أن تحصل تسلسلياً وأن يسبقها توفير نظام واضح وشفاف وموجه من شأنه تحديد العائلات أو الافراد الذين يحتاجون فعلاً إلى الدعم المالي.

– الودائع المصرفية: يدرك المسؤولون في لبنان يدركون تماماً ما يجب القيام به في ما يتعلق بتحديد الخسائر وتوزيعها بحيث لا تخسر الغالبية من المودعين كل أموالها. ويأمل في التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي حيث يمكن من خلاله مناقشة العديد من الحلول، وأن تعطي الحكومة مؤشراً إلى استعدادها للتغيير وتنفيذ إصلاحات يطالب بها المجتمع الدولي.

باختصار، فإن الأبواب ليست موصدة أمام لبنان والنمو المستدام المنصف قابل التحقق، والوصول إليه تحتاج إلى خارطة طريق وبرنامج عمل لطالما نادى به المجتمع الدولي: الإصلاحات. ولتطبيق هذه الإصلاحات، نحتاج إلى حكومة فاعلة غير حزبية قوامها اختصاصيون ملمون بملفاتهم قادرون، بمساعدة المجتمع الدولي، على إعادة بناء الثقة بلبنان وعلى انتشال اقتصاده من الغرق. فهل سترمى إليه سترة النجاة الدولية بعد تقاعس الداخل عن غرق السفينة؟

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً