لبنان في قلب الاقتصاد الأسود… الـ cash economy الأخطر

ليندا مشلب
ليندا مشلب

“شنطة فلوس” هي الوصف المضحك الذي نطلقه على كميات النقد الورقية التي نحملها معنا وخصوصاً اذا كنا نريد شراء شيء ما ثمنه غالٍ أو حتى الى السوبر ماركت. جميعنا يمازح ولكن في داخلنا نبكي… نبكي على البلد الذي أعيد اقتصاده عشرات السنين الى الوراء وخرج من الأنظمة المالية العالمية وأصبح دولة “مارقة” نقدياً.

منذ ثلاث سنوات فقط كانت لدينا حسابات جارية في المصارف، كنا نلجأ الى البطاقات والشيكات المصرفية في حالة المبالغ الكبيرة، وجيوبنا تكاد تفرغ من العملات الا القليل منها جداً على حساب دفتر الشيكات أو البطاقات الائتمانية على أنواعها. وعندما توقف القطاع المصرفي عن تسديد الودائع وتقديم الخدمات الحقيقية والفعلية وأصبح فقط لسحب الودائع من دون أي فعالية في الاقتصاد وأي تسليف للقطاع الخاص وأوقف كل الحسابات، تحول المواطن والتاجر الى حمل العملات الورقية النقدية bank note وبالتالي أصبحت كل الدورة الاقتصادية نقدية ورقية، فالتجار يشترون من الصرافين، ويحولون المبالغ الى الخارج نقدياً عبر شركات التحويل أو المصارف لشراء البضائع وشحنها بينما كانت في السابق عبارة عن فتح اعتماد مرفق بـ lettre de credit لشراء البضائع وعند التسليم يتم القبض من المصرف والبنوك عبر حوالات. كما توقفت العمليات المصرفية على أنواعها تدريجياً وتراجع استعمال البطاقات الائتمانية وصولاً الى حدود الصفر. والنتيجة دخلنا الاقتصاد الأسود “”cash economy، وتحول لبنان من اقتصاد ريعي الى اقتصاد cash وهو أسوأ وجوه الاقتصاد الذي لا يعرف الا بالسلبيات… فما هي خطورة الـcash economy ؟

أولاً: تكمن خطورته في غياب الرقابة والمعرفة لمصادر الأموال، ثم ان الأجهزة الرقابية والضرائب وكل المعاملات التي لها علاقة بالدولة وبفرض الضرائب أصبحت معدومة لأن التجار يستطيعون بكل سهولة حجب الحقيقة عنها والافصاح عن الثمن الحقيقي للسلع والأرباح، في ظل عجز أجهزة الرقابة عن المتابعة الحقيقية ما يؤثر بصورة سلبية ومباشرة على مداخيل الدولة. أما المؤشر الدولي الأخطر فهو تحول بلدان الكاش الى بيئات حاضنة لتبييض الأموال والتهريب وتجارة المخدرات، وهذا يخفض تلقائياً التصنيفات العالمية ويثير الارتياب من مصادر الأموال للمنتمين الى هذه الدولة عند تنقلهم، أي عملياً قطعنا نصف الطريق نحو فنزويلا، وبما أن اللبناني معروف بحنكته فعلى الأرجح لن نتأخر لنسبقها.

لبنان أصبح من بين الدول القليلة التي خرجت كلياً أو جزئياً عن الـsystem النقدي العالمي مثل العراق وايران وسوريا، اما بسبب التعثر والأزمات الاقتصادية الحادة أو العقوبات، ونسبة الخروج أصبحت مع بداية هذا العام بحدود الـ٩٠٪؜ أي عدنا الى عمليات التبادل التي كانت قائمة في العام ١٩٢٠ قبل دخول العالم الأنظمة المصرفية، وهذا يعرّض الاقتصاد والعمليات التجارية للخطر ويرفع منسوب السرقات بصورة غير مسبوقة لأن الناس أصبحت تحمل أموالها داخل حقائبها أو مؤسساتها أو منازلها، وسيغيب التصريح عن مصادر الأموال خصوصاً أن الولايات المتحدة ألغت مفهوم الدولار الأسود والدولار الأبيض، فالدولار هو دولار إن لم يكن مزيفاً، وبالتالي التداول فيها بغض النظر عن مصادرها هو شرعي ومعمول به. الا أن الايجابية الوحيدة للمواطن هي أنه بات يعمل وفق مقولة “على قد بساطك مد اجريك” أي لا قروض ولا ديون ولا شيكات مؤجلة والواقع فرض عليه التكيف مع قدرته الشرائية.

مصدر حكومي رفيع يؤكد لموقع “لبنان الكبير” أن هذا التحول سببه الأساس سياسة النظام المصرفي في لبنان الذي أصيب بالضربة القاضية، وانعكس الأمر انعدام الثقة والحذر من المواطنين، والتدفقات حالياً لا تمر بالقطاع المصرفي فقد أصبح مجمل الـfresh account مليار دولار بينما كان في السابق ١٨٠ مليار دولار، بالاضافة الى صعوبة الحصول على أموال غب الطلب، والأمر الآخر هو التخبط الفاضح في مشروع قانون “الكابيتال كونترول”، فمن الطبيعي أن تؤدي كل هذه الأمور الى اقتصاد نقدي.

ويقول المصدر ان صديقاً له اضطر الى أن يتلقى دفعة من المال لتمويل مشروع كبير بقيمة ٢ مليوني دولار كاش لشراء المواد الأولية، لم يمر هذا المبلغ بالعمليات المصرفية فاضطر الى أن يحمله نقداً وبقي يعده على مدى ثلاثة أيام، وهذه عينة مما يحصل، فقسم كبير من التدفقات والتحويلات أصبح نقدياً يحمله المواطنون اما من مدخراتهم، أو مما استطاعوا سحبه من المصارف، واما عبر المطار الذي يغض النظر عن حركة الأموال ذهاباً واياباً، والصفحة السوداء تكمن في التهريب وتجارة الممنوعات والتي تحصل عبر المعابر غير الشرعية. لذلك، أصبح من الصعب جداً تحليل حجم الاقتصاد والاستهلاك والاستثمار لأن كل العمليات مغيّبة وتحولنا الى مصدر قلق للأموال غير النظيفة، وإن كانت تحصل في ظل النظام المصرفي قبل الأزمة ونسبياً في كل بلدان العالم، لكن الخطورة لدينا أن تمويل الاقتصاد أصبح عبر التعاطي النقدي ما يؤدي الى غياب المؤشرات الحقيقية للاقتصاد وعدم معرفة حجم التداول فتغيب الأرقام (الشيكات المرتجعة مثلاً كانت تعطي فكرة واستنتاجات عن تعثر الاقتصاد وهذا الأمر يؤثر بصورة مباشرة على محفظة المصارف). ثم ان العمليات النقدية لا تسجل لأنها تكون بين التاجر والتاجر أو بين التاجر والمستثمر أو حتى بين التاجر والزبون ما يعرضها للتلاعب والتهرب من التصريح الضريبي، والنظام المصرفي تحول الى نظام مدفوعات وليس تمويل، والأموال محتجزة من دون تدفقات، والخروج من هذه المشكلة الكبرى ينظر اليها من خلال عملية اصلاح كلية على خطوط عدة، والتأخر في الوصول اليها يجعل الأمور تسوء أكثر وأكثر وتحتاج الى وقت أكبر للمعالجة، وهذا الأمر يقول المصدر أصبح معروفاً، والبداية تكون من وقف السياسات وتخبط التعاميم الصادرة من شارع الحمراء والوصول الى سياسة نقدية موحدة ووقف الفوضى “فنحن دفعنا على مدى ثلاثين عاماً ثمن السياسة التي أردت الاقتصاد اللبناني وهي تثبيت سعر الصرف، وحتى الآن ندفع ثمنها بطريقة أخرى. ألم يئن الأوان لمعرفة أن هذه السياسة هي أم الخطايا في الاقتصاد والتلاعب بسعر الدولار وخلق أسواق موازية؟”.

ما يهدي الدولار هو التغير في نظام المدفوعات فقط، وهذه التعاميم هي خزعبلات لم تعد تؤدي الغاية منها والقدرة على التحكم فيها أصبحت صعبة جداً، فـ “صيرفة” أصبحت فقط لمعرفة حجم التداول وفق سعر اصطناعي، وهي الأقرب حالياً الى السوق الموازي، لذلك اضطررنا الى اعتمادها في موازنة الـ ٢٠٢٣، مرحلياً حتى نتمكن من توحيد سعر الصرف ثم تحريره وفق أنظمة المصارف المركزية العالمية التي لا تتدخل الا عند تعرض السوق لمضاربة على القطع أو ما يسمى attaque speculative وهنا يتدخل “المركزي” وينزل دباباته والقوة الضاربة ويضخ دولاراته للتصدي لهذه الحرب. هكذا فقط يتدخل للحالات الاستثنائية والتلاعب بالسوق وللأسباب القاهرة، لكن في لبنان تدخل “المركزي” وثبت السعر على مدى ٢٧ عاماً وأوصلنا هذا التدخل الى ما نحن عليه اليوم… سياسات بلا جدوى مرحلية والخروج منها لن يكون الا بدخول الدولارات.

اذاً، دخلنا أسوأ أنواع الاقتصاد الذي أخرجنا عن الرادار والتداول بالشيكات وحجم تداول البطاقات وأسواق السندات التي تشخص المرض في الجسم المالي وتقوّم حجم الاقتصاد، وهذا هو أخطر تداعيات الأزمة والخروج منه لن يكون الا باعادة القطاع المصرفي الى طبيعة عمله والبدء بالتعافي والا سنذهب أكثر الى تأمين أجواء الفردوس للعمليات غير النظيفة.

فهل يصبح لبنان “مثلث برمودا” النقدي والمالي في المنطقة؟

شارك المقال