هل يُنقذ انخفاض أسعار السلع الأولية العالم من كارثة التضخم؟

هدى علاء الدين

أصدر البنك الدولي مؤخراً تقريراً حول “آفاق أسواق السلع الأولية” كشف فيه عن استقرار أسعار السلع الأولية العالمية بعد انخفاضها بصورة ملحوظة خلال العام الماضي. وساهم هذا الانخفاض بصورة كبيرة في خفض التضخم العام. ونتيجة لذلك، قد تُصبح وتيرة خفض أسعار الفائدة من المصارف المركزية أبطأ مما كان متوقعاً.

وحذّر التقرير من أن اندلاع صراع كبير في الشرق الأوسط قد يُؤدي إلى وقف انخفاض التضخم الذي حدث خلال العامين الماضيين. فاستمرار التوترات الجيوسياسية يُشكل خطراً على استقرار أسواق السلع الأولية، الأمر الذي قد ينتج عنه ارتفاع الأسعار مجدداً.

وشهدت أسعار السلع الأولية العالمية انخفاضاً ملحوظاً خلال العام الماضي، بحيث انخفضت بنسبة 40 في المئة بين منتصف العام 2022 ومنتصف العام 2023. وقد أدى هذا الانخفاض الكبير إلى تراجع التضخم العالمي بنحو نقطتين مئويتين خلال الفترة نفسها، لكن معدلات التضخم في معظم البلدان لا تزال أعلى بكثير من مستهدفات المصارف المركزية.

وبالتالي، حتى مع استمرار انخفاض أسعار السلع الأولية، ستظل أسعارها أعلى بنسبة 38 في المئة تقريباً عن متوسط ​​خمس سنوات قبل جائحة كورونا.

وتُعزى استدامة ارتفاع أسعار السلع وسط تباطؤ النمو إلى مجموعة من العوامل الرئيسية:

  • التوترات الجيوسياسية: تُلقي التوترات المتزايدة على الساحة الدولية بظلالها على أسعار السلع الأساسية، ما يخلق مخاطر حدوث تقلبات كبيرة في الأسعار.
  • ظروف العرض: يعاني العديد من السلع الصناعية من شح في العرض، ما يعني أن أي تحسن مفاجئ في النشاط الاقتصادي قد يؤدي إلى ارتفاعات حادة في الأسعار. وتشير المؤشرات الأخيرة إلى تحسن طفيف في الطلب الصناعي على المدى القريب، ما يدعم هذه الزيادات.
  • الصين: على الرغم من التباطؤ في قطاع العقارات، لم يتأثر الطلب الصيني على السلع، خصوصاً المعادن، بالقدر المتوقع. ويعود ذلك جزئياً إلى الارتفاع في الاستثمارات الصينية في البنية التحتية والقدرات التصنيعية.
  • تغير المناخ: تلعب جهود مكافحة تغير المناخ دوراً مهماً في دعم أسعار السلع، بحيث ينمو الاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة كثيفة المعادن بمعدلات تتجاوز 10 في المئة، ما يخلق طلباً مستمراً على المعادن الأساسية.

ومع ذلك، فقد استقر مؤشر أسعار السلع الأولية للبنك الدولي منذ منتصف العام 2023. وبينما تشير التوقعات إلى استمرار انخفاض أسعار السلع الأولية عالمياً، فإنّ وتيرة الانخفاض ستكون أبطأ، بحيث يتوقع البنك انخفاضاً بنسبة 3 في المئة في 2024 و4 في المئة في 2025، لكن بشرط عدم تفاقم الأوضاع الجيوسياسية.

عكس الاتجاه: النفط والمعادن الثمينة في صعود

وبينما يشهد العام 2024 انخفاضاً في أسعار معظم السلع الأساسية، يبرز النفط والذهب والنحاس كاستثناءات بارزة، بحيث من المتوقع ارتفاع أسعارها بصورة ملحوظة. ومن المتوقع أيضاً ارتفاع أسعار الذهب بنسبة 8 في المئة، في حين يُتوقع ارتفاع أسعار النحاس بنسبة 5 في المئة.

ويتوقع الخبراء زيادة سعر النفط بنسبة 2 في المئة هذا العام، عكساً لاتجاه معظم السلع الأساسية مع تصاعد القلق حول احتمال تصعيد الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على التضخم العالمي. وعلى وجه الخصوص، يمكن للأحداث المرتبطة بالصراع والتي تؤدي إلى تقليص استخراج النفط وتصديره في المنطقة أن تدفع الأسعار إلى الارتفاع. سيعتمد مدى تأثير ذلك على أسعار النفط ومدته على حجم الصدمة الأولية ونوعها، بالاضافة إلى استجابة المنتجين الآخرين لارتفاع الأسعار.

تداعيات على الأمن الغذائي والتضخم

يواجه العالم أزمة غذاء غير مسبوقة، بحيث يعاني عدد هائل من الناس من الجوع وانعدام الأمن الغذائي. فقد ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص حاد في الغذاء بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، من 100 مليون في العام 2018 إلى 250 مليوناً في العام 2022، مع توقعات بزيادة هذا الرقم بصورة أكبر على الرغم من انحسار التضخم في أسعار الغذاء.

وتشير أحدث البيانات إلى أن 238 مليون شخص في 48 دولة من أصل 73 دولة تعاني من أزمات غذائية كانوا يعانون من انعدام حاد للأمن الغذائي في العام 2023، بزيادة 10 في المئة عن العام 2022 وارتفاعاً من 99 مليوناً في العام 2018.

المعاناة مستمرة

انخفض التضخم العالمي في أسعار الغذاء بصورة طفيفة في الربع الأول من العام 2024، ليصل إلى 4.9 في المئة مقارنة بـ 5.7 في المئة في الربع الرابع من العام 2023. ويعود هذا الانخفاض جزئياً إلى تراجع الأسعار العالمية للسلع الزراعية.

ومع ذلك، لا يزال الوضع مقلقاً في العديد من البلدان النامية والناشئة، حيث يعاني حوالي بلد من كل خمسة من ارتفاع في أسعار الغذاء مقارنة بالعام 2022، ذروة موجة التضخم العالمية الأخيرة. ففي الواقع، تجاوز التضخم في أسعار الأغذية 5 في المئة في نصف البلدان في كل من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وجنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

النزاعات المسلحة تُشعل نار الجوع

تُعتبر النزاعات المسلحة المحرك الرئيسي لانعدام الأمن الغذائي العالمي، متجاوزةً بذلك الصدمات الاقتصادية والظواهر الجوية المتطرفة كعامل رئيسي في تفاقم الأزمات الغذائية.

يُجسّد هذا الواقع بوضوح في منطقة الشرق الأوسط، حيث أدت الصراعات المتكررة وتصاعد وتيرة عدم الاستقرار والعنف في الدول الهشة المتأثرة بالنزاعات إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي بصورة كارثية. وفي الوقت الذي لم تتخذ فيه خطوات عاجلة لمعالجة هذه الأزمات، يواجه ملايين الأشخاص في كل من غزة وجنوب السودان خطر المجاعة الحقيقية.

وعلى صعيد أوسع، تُعدّ الدول السبع التي تضم أكبر عدد من الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في العام 2024 – أي ما يمثل أكثر من ثلثي العدد الاجمالي – مُبتلاة بالصراعات.

ومع ذلك، تُشير التوقعات إلى احتمال حدوث انحسار طفيف في حدة انعدام الأمن الغذائي خلال العامين المقبلين، وذلك بفضل الانخفاض المتوقع في أسعار المواد الغذائية.

شارك المقال