أزمة الليرة بعد أعوام من التثبيت…إرجعوا إلى 2011

المحرر الاقتصادي

في العام 2020، دخل لبنان أتون أزمة اقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية مركبة وغير مسبوقة بدأت بوادرها تطل برأسها في منتصف العام 2019. وقد زادتها وطأةً جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب وما خلّفه من دمار للعاصمة، لتبلغ ذروتها مع انهيار العملة المحلية لتتخطى اليوم عتبة الـ15 ألفاً للدولار الواحد ومع تعدد أسعار صرفها، وسط عجز اللبنانيين عن تلبية حاجاتهم الأساسية وفي ظل غياب حكومة فاعلة.

وبدلاً من أن يبادر رئيس الجمهورية إلى التخفيف من آلام المواطنين ووجعهم سيما وأن نحو 55 في المئة منهم باتوا يعانون الفقر والعوز، عبر تسهيل تشكيل حكومة تبدأ بتطبيق خارطة طريق إنقاذية توقف الانهيار الاقتصادي المتسارع وتضع لبنان على سكة الإصلاح المطلوب، لا ينفك يعرقل هذا الحل. فيما فريقه السياسي، وتحديداً “التيار الوطني الحر” الذي يرأسه صهره جبران باسيل، يجيد رمي الاتهامات بالتعطيل ضد خصومه بالطريقة التي تناسبه، وبما يخدم مصالحه ومصالح حلفائه. وهذا يفسر الحملة المتجددة على الحريرية الوطنية. إذ ينحصر هجوم “التيار الوطني الحر” على السياسات الاقتصادية التي اعتمدتها “على مدى ثلاثين عاماً” منذ العام 1992 حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري و”تيار المستقبل” وتحميلها مسؤولية ما وصل إليه لبنان من تردٍّ في أوضاعه المالية والنقدية والاجتماعية. في حين لم يسجل إنجاز واحد قام به “التيار الوطني” للاقتصاد الوطني على مدى السنوات الثلاثين الأخيرة.

الحملة في هذه الأيام تتركز على مسألة تثبيت سعر صرف الدولار إلى الليرة التي اعتمدت في أواخر التسعينات، ومحاولة التسويق بأن هذه السياسة كانت سبباً في ما يعانيه لبنان راهناً، على رغم أن مطلقي هذه الاتهامات شاركوا في الحكومات منذ 15 عاماً من دون أن يكون لهم أي موقف معارض من التثبيت الذي كان سياسة ضمّنتها كل الحكومات المتعاقبة بياناتها الوزارية.

قبل التطرق إلى الأسباب التي دفعت بحكومة الرئيس الشهيد إلى اعتماد تثبيت سعر صرف الدولار إلى الليرة، لا بد من عرض الأحداث التي سبقت هذا الإجراء في إطار تقوية ذاكرة من ينتقدون “الحريرية السياسية”، والعودة إلى الحرب الأهلية وتداعياتها الاقتصادية. فلبنان في أواخر الثمانييات وأوائل التسعينيات كان شهد تآكلاً مريعاً لقاعدته الاقتصادية، وانهياراً لقطاع الخدمات وهجرة بعضه الآخر، وانحداراً مدمراً لمستويات قطاع الصناعة وقواعده الإنتاجية، وخسارةً لقدرات قطاع الزراعة ولجزء كبير من طاقته الانتاجية، وشللاً كبيراً في قطاع السياحة الذي كان يشكل 20 في المئة من الدخل الوطني.

كما تراجعت معظم التقديمات الاجتماعية في الصحة والتربية والشؤون الاجتماعية إلى مستويات وضعت الاستقرار الاجتماعي على شفير الهاوية. في وقت سجلت قدرات القوى الأمنية والعسكرية انخفاضاً كبيراً، مما كان لا بد أن ينعكس سلباً على سلامة الوضع الأمني.

وقد تسبّب هذا التدهور الكبير في مقومات لبنان الاقتصادية في حصول قفزات تضخمية. إذ اجتاز معدل التضخم عتبة الـ 120 في المئة، وسُجل ارتفاع غير مسبوق لمستويات البطالة الظاهرة والمقنّعة، ما أدى إلى القضاء على الثقة بالليرة التي وصل سعر صرفها إلى حدود الـ 3000 ليرة لكل دولار أميركي.

وقدّر البنك الدولي الأضرار المادية الإجمالية التي تكبدها لبنان خلال فترة الحرب بـ25 مليار دولار، أي ما يفوق ثمانية أضعاف إجمالي الناتج القومي للبنان في العام 1990.

حين جاء الشهيد رفيق الحريري غلى رئاسة الحكومة في العام 1992، باشر بإزالة بصمات الحرب الأليمة. فوضع رؤية إصلاحية شاملة شكّلت القاعدة الأساس لإطلاق مشروعه لإعادة الإعمار وتطوير البنى التحتية وتحديثها، بهدف استعادة الخدمات الأساسية اولاً ليصار بعدها إلى إعادة تفعيل الاقتصاد وتحسين إنتاجية الإدارة. وأعاد بناء الطبقة الوسطى التي تعتبر العمود الفقري الأساسي لأي دولة ترغب في التطور والتقدم. كل ذلك ساهم لاحقاً في أن ينعم لبنان بالاستقرار وأن يلعب دوراً على الساحة الدولية.

لماذا خيار تثبيت سعر الصرف؟

لم تأتِ سياسة تثبيت سعر صرف الدولار إلى الليرة في التسعينيات من فراغ، إنما كانت حصيلة نقاشات مستفيضة مع صندوق النقد الدولي في حينه، انطلاقاً من أن لبنان خارجٌ للتو من حرب مدمرة أنهكت اقتصاده. وكانت النقاشات تدور حول وجوب بناء الاقتصاد على ركيزة أو “مرساة”، ليستقر الرأي على تثبيت سعر الصرف سعياً للجم معدلات التضخم الخيالية والمحافظة على القوة الشرائية للبنانيين.

وقد بدأ مصرف لبنان بتطبيق هذه السياسة منذ العام 1997 انطلاقاً من الدور المحدد له في المادة 70 من قانون النقد والتسليف بأن “مهمة المصرف العامة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم”. كما حدّدت المادّة بشكّل صريح المهام التي تدخل ضمن هذه المُهمّة العامّة بـ:”المحافظة على سلامة النقد اللبناني، المحافظة على الاستقرار الاقتصادي، والمحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي. بمعنى آخر، فان قرار تثبيت سعر صرف الدولار إلى الليرة تتخذه الحكومة وليس المصرف المركزي”.

حين كانت الليرة عائمة في فترة الثمانينيات، شهدت تدهورات حادة. اذ انهارت قيمتها في العام 1987 بأكثر من 470 في المئة، نتيجة تهافت اللبنانيين على شراء العملات الأجنبية وتنامي عجز المالية العامة وعجز ميزان المدفوعات. فيما عمدت الحكومة حينها للاقتراض من المصارف التجارية ومن المصرف المركزي لتمويل إنفاقها.

من هنا، فإن استقرار سعر صرف الليرة شكّل ركناً أساسياً في بناء الثقة بالاقتصاد، وحافزاً فاعلاً لتدفّق رأس المال من الخارج وطمأنة المستثمر إلى قيمة استثماراته، ولكبح جماح التضخم والضغط لخفض معدلات الفائدة السائدة في السوق، وتطوير القطاع المصرفي وتحديثه، والحفاظ على مدخرات المواطنين، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتوفير مصادر التمويل المرتفعة للعجوزات في المالية العامة.

وبعد فترة من الوقت، برزت دعوات للتخلي عن التثبيت، منها صندوق النقد الدولي الذي راح يحض الحكومة اللبنانية على تحرير سعر الصرف. ولهذه الغاية، أرسل بعثة خاصة إلى بيروت لمناقشة تداعيات الاستمرار في اعتماد هذه السياسة على الاقتصاد ككل، وضعت في ختام زيارتها دراسة أكدت فيها ضرورة الاستمرار بهذه السياسة في ظل الخضات السياسية المتلاحقة التي كان يمر بها لبنان.

وقد عبّر رئيس دائرة الشرق الأوسط ووسط آسيا في صندوق النقد الدولي محسن خان بوضوح عن دعم الصندوق للسياسة النقدية المتبعة في لبنان. فهو أعلن في تصريح أدلى به عقب عدوان تموز في العام 2006، أن لبنان بقي بمنأى عن انهيار نقدي رغم العدوان “بسبب اعتماد سياسة نقدية ناجحة وتدفق رؤوس الأموال”، و”إن صندوق النقد الدولي ليس قلقاً إزاء انهيار نقدي في لبنان في المستقبل المنظور. لقد شهد لبنان الكثير من الهزات، لكن النظام النقدي بقي ثابتاً، ويبدو أنه قادر على مواجهة أي تغيرات”.

حقل ألغام

عمل الرئيس رفيق الحريري بجهد لتطبيق رؤيته الإصلاحية ولكن في حقل ألغام سياسي، منه مرتبط بتنامي “حزب الله” ومنه الآخر بالوجود السوري في لبنان وتداعياته، كما بالعراقيل التي استخدُمت ضده بهدف وقف مسار قطار الإعمار والتقدم. نذكر هنا: تعطيل الاجراءات التي كانت واردة في الخطة الاصلاحية التي أُقرت في المؤتمرات الداعمة للبنان لاسيما مؤتمري “باريس 1″ و”باريس 2” (في عامي 2000 و2002) واللذين استهدفا أساساً خفض مستويات الدين العام؛ أو إقرار سلسلة للرتب والرواتب في العام 1998 بعد تفريغها من موادها الإصلاحية من قبل أولئك الذين كانوا من أشد المطالبين بزيادة الإنفاق وأشرس المعارضين لأي إجراء يؤدي إلى الإصلاح الحقيقي أو إلى تحقيق أي زيادة في واردات الخزينة. وهو الأمر الذي كانت له تداعيات كبيرة على مفاقمة المالية العامة وزيادة عجز الموازنة حيث باتت نفقات الرواتب والأجور تمثل أكثر من 30 في المئة من النفقات الإجمالية.

يعني ما تقدم أن لبنان كان قادراً على بلوغ برّ الأمان الاقتصادي والمالي، ولم يكن ليقع اليوم في قعر أزمة غير مسبوقة، لولا مسلسلات التعطيل التي مارستها جهات سياسية متعاقبة لا تعطي قيمة للوقت، ولولا إتاحة المجال أمام حكومات الرئيس رفيق الحريري وحتى لحكومات الرئيسين سعد الحريري وفؤاد السنيورة، لفتح الباب أمام الاستثمارات الخارجية بهدف بناء مشاريع إنتاجية وتنفيذ نشاطات سياحية من دون افتعال مشكلات مع الدول الصديقة القريبة والبعيدة.

للتثبيت تكلفته… ولكن

طبعاً كانت هناك تكلفة جراء سياسة المحافظة على استقرار سعر الصرف والتي كان يجب التخلي عنها منذ سنوات. لكن عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي شهدته البلاد، ولا تزال، كل أربع إلى خمس سنوات، والعرقلة المستمرة للغصلاحات منذ التسعينيات إلى اليوم، وتراكم الفراغات الدستورية وتكلفتها الباهظة على الاقتصاد، منع ذلك. حتى أضحت سياسة المحافظة على سعر الصرف وعلى الاستقرار النقدي أمراً ضرورياً للحفاظ على الثقة في الاقتصاد وللاستقرار المعيشي لجميع اللبنانيين وعلى استمرار الطبقة الوسطى. وذلك في ضوء تجربة لبنان المريرة بين 1984 و1992 حيث أدى تدهور سعر الصرف إلى تزايد الاضطراب الاجتماعي والأمني والسياسي.

لماذا اندلعت أزمة سعر الصرف؟

اليوم، وبعد 22 عاماً من تثبيت سعر صرف الدولار إلى الليرة، بدأت العملة الوطنية منذ أواخر العام 2019 تسجل تراجعاً دراماتيكياً في قيمتها في سوق الصرف الموازية وسط تعدد غير مقبول لأسعارها، ما أدى إلى إفقادها قيمتها الشرائية والى ذوبان الطبقة الوسطى، وإلى تنامٍ كبير في معدلات التضخم التي يتوقع أن تواصل ارتفاعها مع الطبع المستمر للعملة فيما الحلول المجتزأة لتوحيد أسعارها لا تزال قاصرة مع الأسف.

اللبنانيون جميعهم يطرحون تساؤلات حول أسباب الأزمة النقدية واندلاع أزمة سعر صرف. والجواب هو: إذا أردتم معرفة ماذا حصل لليرة، فعليكم أن تعودوا بالأحداث إلى الوراء، وتحديداً إلى العام 2011 بعد الانقلاب على الحكومة الاولى للرئيس سعد الحريري وحين بدأ “التيار الوطني الحر” يحكم قبضته على مفاصل الدولة آخذاً، بالتكافل والتضامن مع حليفه “حزب الله”، القرار الاقتصادي رهينةً لقراراته السياسية الخاطئة.

في ذلك العام، بدأت جميع المؤشرات الماكرو اقتصادية تسجل تدهورات تراكمية حادة. فعجز الموازنة نما بشكل كبير، فيما ارتفع الدين العام بواقع 4 مليارات دولار في عام واحد، وهو أعلى ارتفاع في سنة منذ أكثر من عشرين عاماً. وقد ازداد تمويل العجز عن طريق الاقتراض من المصرف المركزي، ما تسبب في انخفاض احتياطاته، وهو ما أدى إلى تقلص قدرته على المحافظة على استقرار سعر الصرف. في المقابل، كان نمو ودائع الجهاز المصرفي المنغمس بدوره في تمويل الدين العام المتنامي، يتراجع بشدة وبنسبة تقل عن نمو عجز الموازنة. إذ لم يعد نمو الودائع يتعدى نسبة الـ3 في المئة سنوياً، نصفها متأتٍ من الفائدة وليس أموالاً “طازجة” من الخارج. فبات ميزان المدفوعات يسجل عجوزات متراكمة بدءاً من العام 2011 (ملياري دولار في عام واحد) بعد فائض تراكمي كبير وصل إلى 3.3 مليارات في العام 2010. وهو الأمر الذي ساهم في انخفاض كبير في احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية.

هل فات الأوان؟

ولكن، هل فات الأوان لوقف الكارثة؟ بالطبع لا. الخطوط العريضة لما يجب عمله معروفة تماماً. أبرز عناوينها، الإسراع في تشكيل حكومة من اختصاصيين تعلن خطة لمئة يوم تستهدف وقف النزيف الاقتصادي، من خلال بدء تطبيق إجراءات سريعة تطال المجالين المالي والنقدي وتدابير لتوحيد سعر الصرف. على أن تبدأ الحكومة المشكّلة توازياً، وبسرعة، مفاوضات للحصول على برنامج تمويلي من صندوق النقد الدولي تستعيد من خلاله ثقة الداخل والخارج. فهل سيكون للمواطن حكومة فاعلة قريباً أم سيبقى معرقلوها يماطلون على حساب معاناته اليومية؟

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً