تراجع الاستيراد لا يكبح عجز ميزان المدفوعات

المحرر الاقتصادي

في مذكرة أعدها في كانون الأول من العام 2020 بناء على طلب الحكومة تناولت إصلاح الدعم في لبنان، رأى البنك الدولي أن “رفع الدعم واستبداله المحتمل ببرنامج أكثر فعالية وكفاءة يستهدف الفئات الفقيرة، من شأنه أن يُحسِّن ميزان المدفوعات في لبنان، ويطيل بشكل هادف الفترة الزمنية المتبقية حتى نفاد احتياطي مصرف لبنان، ويساعد في التخفيف من التأثير على الطبقة الفقيرة والمتوسطة في لبنان”. بمعنى أن تخفيف الضغط عن ميزان المدفوعات من شأنه أن يخفف الضغط عن الاستيراد بفعل الانخفاض الحادّ في الاستهلاك.

قصد البنك الدولي القول إنه اذا لم يتم اتخاذ اجراءات من شأنها أن تخفف الضغط عن ميزان المدفوعات، فسيستمر النزف في احتياطات مصرف لبنان من العملات الHجنبية، وهو ما سيلغي الهدف المتوخى منه في اصلاح الدعم.

وقد اعتبر البنك الدولي في المذكرة أن “تأثير الطلب الناتج عن رفع الدعم هو عامل رئيسي للتأثير على ميزان المدفوعات. فمن حيث المبدأ، من شأن غياب تأثير الطلب الناجم عن انخفاض الدخل والزيادات في الأسعار، أن يترك ميزان المدفوعات من دون تغيير عن طريق إلغاء الدعم”. بمعنى آخر، إذا بقي الطلب على السلع على حاله، فإن العجز في ميزان المدفوعات سيبقى أيضاً على ما هو عليه.

لماذا يكتسب مؤشر ميزان المدفوعات أهمية كبيرة؟ لأنه، وبكل بساطة، يعكس مدى القوة والثقة التي يتمتع بها أي اقتصاد من حيث قابليته على جذب الرساميل والتوظيفات والاستثمارات في كافة المجالات. بمعنى آخر، يعكس ميزان المدفوعات عوامل الصحة والخلل في الاقتصاد الوطني. فالاقتصاد السليم يتمتع بميزان رابح أو متوازن. أما الاقتصاد المريض، كما هو الحال في لبنان، فهو الذي يعاني العجز المستمر في ميزان مدفوعاته.

يتألف ميزان المدفوعات من شقين، الأول الميزان التجاري أي حركة الصادرات والواردات وهو في عجز تاريخي نظراً لكون لبنان يعتمد في معظم استهلاكه على استيراد السلع؛ والثاني ميزان الرساميل والذي يدل على حركة الرساميل والتحويلات والاستثمارات الداخلة الى لبنان والخارجة منه.

في العام 2011، شكّل تبدل رصيد ميزان المدفوعات من إيجابي الى سلبي، إشارة أساسية الى بداية انفجار الأزمة الاقتصادية حين بدأت المؤشرات الماكرو اقتصادية تسجل تدهورات كبيرة إلى أن انفجرت في أواخر العام 2019. وقد بلغت قيمة العجز في عشر سنوات (بين 2011 و2020) نحو 30 مليار دولار، باستثناء العام 2016 حين حقق ميزان المدفوعات فائضا بقيمة مليار و200 مليون دولار نتيجة الهندسات المالية التي نفّذها مصرف لبنان. قبل العام 2011، وتحديدا بين أعوام 2001 و2010، سُجّلت فوائض في ميزان المدفوعات بقيمة 24.2 مليار دولار.

استمرار العجز في ميزان المدفوعات

أحدث الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان، تشير إلى أن ميزان المدفوعات سجل حتى نيسان من العام الحالي عجزاً تراكمياً قيمته مليار و393 مليون دولار، مقارنة بعجز قريب تم تسجيله في الفترة نفسها من العام 2020 حين بلغ ملياراً و302 مليوني دولار في الفترة نفسها من العام 2020. وهو كان أقفل العام 2020 على عجز تراكمي بقيمة 10.55 مليار دولار.

أما مرد هذا العجز فيعود الى انخفاض الموجودات الأجنبية الصافية لمصرف لبنان (أي الفرق بين موجوداته ومطلوباته بالعملات الأجنبية) بواقع مليارين و370 مليون دولار في مقابل ارتفاع تلك التابعة للمصارف التجارية بواقع 977.2 مليون دولار.

وقد بلغ العجز الشهري لميزان المدفوعات 546 مليون دولار، بعدما انخفضت الموجودات الأجنبية الصافية لمصرف لبنان والمصارف التجارية بقيمة 515.9 مليون دولار و30.1 مليون دولار على التوالي.

وكما بات معروفاً، فإن الانخفاض في الموجودات الأجنبية الصافية لمصرف لبنان سببه استمرار دعم المصرف المركزي للسلع الأساسية.

أما في حصة المصارف، فلوحظ انخفاض خانة “ودائع الزبائن غير المقيمين” (تابعة لشركات في الخارج أو أفراد أو منظمات دولية أو سفارات) بـحوالي 64 مليون دولار في شهر نيسان لتصل الى 26.82 مليار دولار (من 27.39 مليار دولار في نهاية العام 2020، و32.6 ملياراً في نهاية 2019). الأمر الذي يثير شكوكاً في ما إذا كانت لا تزال تتم عمليات سحب أو تحويلات بالدولار والذي يستوجب في جميع الحالات إقرار قانون واضح للكابيتال كونترول. كما انخفضت “مطلوبات القطاع المالي لغير المقيمين” بـ 570.98 مليون دولار إلى 5.38 مليارات دولار، وانخفاض آخر بواقع 95.9 مليون دولار في “المطالبات على العملاء غير المقيمين” إلى 3.7 مليارات دولار، وآخر في خانة “المطالبات على القطاع المالي غير المقيم” بواقع 572.66 مليون دولار إلى 4.31 مليارات دولار.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن إحصاءات جمعية مصارف لبنان أظهرت انخفاض الودائع الإجمالية لدى المصارف بواقع 3.1 مليارات دولار في الأشهر الأربعة الاولى من العام الحالي لتصل إلى 136 مليار دولار في مقابل تراجعها بقيمة 11.3 مليار دولار في الفترة نفسها من العام الماضي.

المفارقة هي أن ميزان المدفوعات الذي يتكون بمعظمه من الميزان التجاري ومن حركة التحويلات، لا يزال يسجل عجوزات كبيرة على رغم الانخفاض المهم في عجز الميزان التجاري وذلك نتيجة ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وبطبيعة الحال انخفاض الاستيراد الّذي يعود إلى تدهور القوّة الشرائيّة لدى المواطن تزامنًا مع انهيار قيمة عملته الوطنيّة.

ففي نهاية العام 2020، بلغ العجز التجاري للبنان 7.75 مليارات دولار، متقلصاً من 15.50 مليار دولار المسجلة نهاية عام 2019. هذا الرقم الذي انخف بنسبة حوالي 50 في المئة، هو نتيجة تراجع السلع المستوردة بنسبة 41.2 في المئة على أساس سنوي إلى 11.31 مليار دولار في كانون الأول ديسمبر 2020 مقابل انخفاض الصادرات الإجمالية بنسبة 4.7 في المئة على أساس سنوي إلى 3.56 مليارات دولار خلال الفترة نفسها.

هذا يعني أن العجز الكبير في ميزان المدفوعات لا يزال مدفوعاً بشكل أساسي بانخفاض حاد في التدفقات الوافدة التي فاقت التقلص في العجز التجاري.

من هنا، أهمية التفاوض مع صندوق النقد الدولي في إطار السعي ال تصحيح الخلل الكبير في ميزان المدفوعات. فإعادة استقطاب الرساميل والاستثمارات والسياح الى لبنان تحتاج الى استعادة الثقة بلبنان وباقتصاده، وهو ما يمكن أن يوفره الصندوق ويدفع باتجاه تحرير المساعدات والقروض الميشرة الخارجية المرصودة الى لبنان، توازياً مع إعادة هيكلة الدين العام والمصارف، وخفض الإنفاق بما في ذلك قطاع الكهرباء المكلف للخزينة وللمواطن في آن.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً