لا يختلف اثنان على أن قفزات الأسعار وموجات الغلاء التي تشهدها الأسواق اللبنانية في الآونة الأخيرة هي الأولى من نوعها منذ عقود، وذلك نتيجة فشل الليرة اللبنانية في الصمود في وجه رياح الدولرة الشاملة التي طالت البضائع في السوبرماركت والمحال الغذائية مؤخراً وأطماع التجار المحتكرين الذين وجدوا في دولرة الأسعار فرصة لزيادة هامش ربحهم من دون حسيب أو رقيب.
اليوم، ومع دخول قرار التسعير بالدولار شهره الثالث، وتسجيل لبنان أعلى معدل تضخم في أسعار المواد الغذائية في الترتيب العالمي عند 261، بات الحديث عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية بصورة غير مبررة حديث الساعة لدى اللبنانيين العاجزين عن فهم أسباب ارتفاعها على الرغم من اعتماد مبدأ التسعير بالدولار والذي اتخذ كما قيل في السابق حماية لهم من تقلبات سعر صرف الدولار، ليتبين أن هذا القرار سمح للتجار المحتكرين في ظل غياب الرقابة بالتلاعب في الأسعار وزيادتها بالدولار مع وجود العديد من السلع التي تُباع بأكثر من قيمتها وتكلفتها الحقيقية، بحيث بات دولار اليوم أغلى من دولار الـ 1500.
وعلى الرغم من رفض نقابة مستوردي المواد الغذائية الأرقام الصادرة عن البنك الدولي، وتأكيدها أن التضخم الكبير الحاصل في أسعار الغذاء يرجع إلى سبب واحد وأساس ألا وهو انهيار العملة الوطنية والارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار، إلا أن الواقع يشير إلى وجود سبب آخر يُضاهي بأهميته ما ذكرته النقابة. فمع ضعف قيمة الرواتب والأجور مقابل معدلات تضخم الأسعار المرتفعة والمستمرة، يشعر اللبنانيون بموجة غلاء هستيرية، بحيث ترتفع الأسعار بالدولار باستمرار على الرغم من انخفاض سعر الصرف في السوق الموازية. ومع الحديث عن ارتفاع سعر الدولار الجمركي ليصبح بحسب سعر منصة “صيرفة”، لم يكذب التجار خبراً بل سارعوا إلى إضافة نسبة الزيادة على الأسعار على الرغم من تأجيل العمل به إلى 12 أيار الجاري، لتصبح الزيادة في الأسعار زيادتين الأولى عشوائية والثانية احترازية وكلاهما تقعان تحت خانة الطمع وعدم الرأفة، إذ ليس من المستبعد أيضاً أن تشهد أسعار السلع ارتفاعاً ثالثاً لدى دخول تطبيق سعر الدولار الجمركي الجديد حيز التنفيذ. التجار الذين يسارعون إلى رفع أسعارهم مع أي تقلبات للدولار صعوداً يتغافلون عن خفضها مع تراجع الدولار، لا بل يعمدون إلى رفعها بالدولار لتبقى التسعيرة بالليرة اللبنانية كما هي وربما أعلى.
صحيح أن دولرة أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية كانت شراً لا بد منه في ظل اتباع الدولرة الشاملة لمختلف القطاعات، إلا أن هذه الزيادات المتلاحقة للأسعار على رفوف المحال التجارية والسوبرماركت لم تعد عادلة على الاطلاق. ففي بلد تُفتقد فيه أخلاق الأزمة ويكثر فيه تجارها الذين استغلوا ارتفاع سعر صرف الدولار من أجل مضاعفة أسعارهم، تحوّل هامش الربح بصورة فاضحة إلى فائض سقطت عنه صفة “الحق المشروع”.
نعم، كان من المفترض أن يحلّ قرار التسعير بالدولار مشكلة الفوارق في الأسعار وأن يحمي المستهلك من تقلباتها واختلافها من متجر إلى آخر، إلا أن ذلك لم يحصل أبداً وما كان متوقعاً قد حصل بالفعل. فالرابح الأكبر كان وسيبقى التاجر على حساب جيبة المواطن الذي وقع من جديد في فخ القرارات المكلفة اقتصادياً واجتماعياً بعدما فقد قدرته الشرائية بالعملة الوطنية نهائياً نتيجة الضغوط المالية التي أثقلت كاهله.