6 أنواع من الودائع… هل تُنصف المودعين؟

هدى علاء الدين

أكثر من أربع سنوات مرت ولا يزال ملف استرداد أموال المودعين تائهاً بين الساسة والمصرفيين، حتى باتت أزمة المودعين أكثر الأزمات تشعباً وتشابكاً في ظل جفاف تام لأي مصدر دولاري يُعيد العجلة الاقتصادية ويجذب الاستثمارات الخارجية، ويجعل الأطراف المعنية بهذه الأزمة قادرة على تسديد ديونها والمتمثلة في أموال المودعين لأصحابها، وسط تخوف من أن يكون شطب الودائع بهدف التخلص منها الغاية المنشودة على المدى الطويل.

حالة عدم اليقين التي أصابت مصير الودائع دفعت العديد من أصحابها عبر سنوات الأزمة إلى التخلص منها خوفاً من خسارة كامل قيمتها مستقبلاً إما عبر السحوبات المصرفية عبر أسعار الصرف المتعددة والتي لم تتجاوز حتى اليوم عتبة الـ 15000 ليرة في حين أن سعر الصرف في السوق السوداء يتخطى الـ94000 ليرة، أو عبر بيع الشيكات المصرفيّة بأقل من قيمة الشيكات الفعليّة بأكثر من 80 في المئة، الأمر الذي أدى إلى ذوبان جزء كبير من هذه الودائع بالاكراه لتجنب تحميل المصارف ومصرف لبنان والدولة الجزء الأكبر من الخسائر المالية.

وفي حين تشير أرقام مصرف لبنان إلى وصول حجم احتياطاته من العملات الأجنبيّة إلى ما دون مستوى الـ 9.4 مليارات دولار نهاية نيسان الماضي، فهذا يعني أن هذه الاحتياطات هي آخر ما تبقى من أموال المودعين التي أودعتها المصارف لدى “المركزي” الذي خسر حوالي 30 مليار دولار من أموال المودعين منذ بدء الأزمة وحتى اليوم نتيجة تعدد أسعار الصرف وسياسة الدعم التي كانت سائدة وتمويل منصة “صيرفة” وتدخله في السوق السوداء لشراء العملة الصعبة أحياناً ولضخها أحياناً أخرى.

وبحسب الأرقام الصادرة عن مركز الاحصاء اللبناني – الأوروبي، فإن حوالي 90 مليار دولار من أموال المودعين اللبنانيين اختفت بعد ثورة 17 تشرين الأول عام 2019 بطرق مختلفة، منها 27 مليار دولار من مصرف لبنان صرفت على دعم الاستيراد على مختلف أنواعه وخصوصاً المحروقات والمواد الغذائية، حوالي 20 ملياراً حوّلت من المصارف اللبنانية إلى الخارج لأغراض عديدة منها تهريب أموال وسداد مستحقات، و45 ملياراً قروض أعطيت للمقترضين من أموال المودعين تم تسديدها على دولار 1500 ليرة لبنانية وشيكات لولار.

واعتبرت الحكومة في خطتها التي سلمتها مؤخراً إلى مجلس النواب، أن هول الواقعة يتجلّى لدى مقارنة حقوقِ المودعين، التي توازي حالياً 93,5 مليار دولار، مع قيمة الأصول السليمة المتبقية في القطاع المصرفي ككل، والتي تُقدر بـ21 مليار دولار وهي على درجات مختلفة من السيولة، أي القدرة على التصرف بها فورياً. وتتكوّن هذه الأصول من حوالي 10 مليارات دولار من احتياط المصارف الالزامي لدى مصرف لبنان، ما هو أقل من الاحتياط القانوني الذي يجب أن يوازي 13 مليار دولار (أي 14 بالمئة من قيمة الودائع)، 4 مليارات دولار من التوظيفات الخارجية للمصارف، 6 مليارات دولار تُمثل محفظة قروض القطاع الخاص غير المتعثرة، وسندات اليوروبوند بقيمة سوقية ضئيلة لا تتعدى المليار دولار.

وبحسب الخطة، فقد ساهمت عوامل وإجراءات عدَّة في استنفاد الودائع المصرفية المقوّمة بالدولار وذلك بسبب عاملين رئيسين: الأول يتمثل في انكشاف المصارف المفرط على المخاطر السيادية بشقيها المتمثل في الخزينة (سندات اليوروبوند، حالياً 7 مليارات دولار)، ومصرف لبنان (احتياط الزامي، شهادات إيداع، وتوظيفات أخرى تقول المصارف إن لا خيار كان لها سوى إيداعها في مصرف لبنان التزاماً بتعاميم الأخير). وشكل هذا الانكشاف خروجاً صارخاً من جانب المصارف على المعايير الاحترازية وقواعد إدارة مخاطر الائتمان التي هي من صميم العمل المصرفي، فضلاً عن تقاعس السلطات الرقابية عن التحذير من خطورة انكشافٍ بهذا الحجم (لم تكن المصارف غير مدركة به) والنهي عنه وحث المصارف على تقليصه كونه بالعملة الأجنبية وليس بالليرة اللبنانية، لا سيما وأن انكشاف المصارف التجارية على المخاطر السيادية تعدى الأكثر من خمسة أضعاف قيمة رساميلها (حوالى 22 مليار دولار قبل الأزمة)، في حين تُحدد المعايير الدولية سقفاً للانكشاف على مُدينٍ واحدٍ لا يفوق الـ 20 في المئة من رأس المال، ما يعني تجاوز هذا الانكشاف الحدَّ الاحترازي بـ 25 ضعفاً. أما العامل الثاني، فيتمثّل في سياسة البنك المركزي بالاستحواذ غير المقيَّد عبر فترات طويلة من الزمن على الودائع بالعملات الأجنبية لتمويلِ نظامِ الربطِ الثابت بين اللّيرة اللبنانية والدولار الأميركي، والمثابرة على سياسةِ دعمِ العملة الوطنية على الرغم من نضب التدفقات المالية الوافدة، خصوصاً بعدما أصبح ميزان المدفوعات سلبياً منذ العام 2011، ليتفاقم الوضع بعد سنة 2015.

وبلغ مجمل انكشاف المصارف التجارية لدى مصرف لبنان 85,2 مليار دولار، منها 10 مليارات دولار من الاحتياطي الالزامي مُتوافرة كسيولة، 35 مليار دولار لدعم سعر الصرف، 10 مليارات دولار تمويل الدولة (بما فيه كهرباء لبنان)، 20 مليار دولار كلفة فرق فوائد دائنة ومدينة بما فيه وقع الهندسات المالية، 5 مليارات دولار للقروض المدعومة من سكنية وتكنولوجيا وغيرها، و5,2 مليارات سندات يوروبوند. من جهة أخرى، تُشير خطة الحكومة إلى حماية جميع الحسابات وليس الصغيرة منها فقط، لغاية مئة ألف دولار أو أكثر، وفقاً لما يسمح واقع المصرف المالي والذي سوف تُحدَّد على أساسه قيمة استرداد الودائع. فهناك أصول في القطاع المصرفي قد تكفي لدفع هذه الودائع بالدولار، وفي حال تعذر ذلك تُدفع عندها الودائع لغاية المئة ألف بنسبة معيَّنة بالدولار وأخرى بالليرة على أساس سعر صرف السوق. وبالتالي، فإن تسديد مئة ألف دولار لكل أصحاب الودائع يعني أن 88 في المئة من المودعين سوف يستردُّون كامل ودائعهم على فترة محددة من الزمن، مع التنويه بأن هذا البند لا ينطبق على الزيادات في أرصدة المودعين بعد 31 آذار 2022. أما أرصدة الودائع التي تتعدى الـ 100 ألف دولار، فستُحول إلى “صندوق استرجاع الودائع” وجزءٌ الى أسهم لاعادة رسملة المصارف في إطار معالجة كل مصرف على حدة، مع إعطاء أفضلية من حيث سرعة التسديد للودائع لغاية مليون دولار.

أما في نسب توزيع الودائع حسب أحجامها، فتتألف هذه النسب من مجموع 93,5 مليار دولار من الودائع القائمة في نهاية 2022، وتشمل ودائع ما دون المئة ألف دولار (قيمتها 15,7 مليار دولار، تُمثِّل 17 في المئة من مجموع قيمة الودائع)، ودائع ما بين 100 ألف ومليون دولار (قيمتها 41,2 مليار دولار، تمثل 44 في المئة من مجموع الودائع)، ودائع ما بين مليون و5 ملايين دولار (قيمتها 19,1 مليار دولار، تمثل 20 في المئة من مجموع الودائع)، وودائع ما فوق الـ 5 ملايين دولار (قيمتها 17,4 مليار دولار، تمثل 19 في المئة من مجموع الودائع.

وفي ما يتعلق بتوصيف الودائع ضمن فئات مختلفة، تنقسم إلى ودائع “غير مؤهلة” للتسديد كلياً بمبلغها الاسمي، أكانت دون أو فوق المئة ألف دولار والتي حُوِّلت بعد تشرين الأول 2019 من الليرة اللبنانية إلى دولار على سعر الـ1500 ليرة الرسمي للدولار الواحد وتُقدَّر قيمة هذه الودائع حالياً بـ22 مليار دولار (مقابل 31,5 ملياراً في منتصف 2021)، وودائع ذات الفوائد “الفائضة” والتي تتعدى المئة ألف دولار وسوف تُعدل قيمتُها بحسم “فائض الفوائد” المستحقة عليها منذ سنة 2015 وتُقدر قيمة هذه الفوائد بـ 5 مليارات دولار. وتقترح الخطّة إلزام أصحاب الودائع التي تتجاوز قيمتها المليون دولار تقديم الأدِلّة والأوراق الثبوتية للمصارف حول مصدر الأموال، بحيث تناهز تقديرات قيمة الأموال التي قد يشوبها الشكّ في مشروعيتها خمسة مليارات دولار، ما يوازي 5,3 في المئة من مجموع الودائع. أما لناحية التحويل الطوعي لودائع الى الليرة اللبنانية، فسيسمح لمن أراد بتحويل قسم من ودائعه إلى الليرة على سعر صرف أقلّ من سعر السوق على ألّا يتجاوز المبلغ الإجمالي أربعة مليارات دولار، ما يوازي 4,3 في المئة من مجموع الودائع، ضمن سقف محدَّد لكل مودع بداعي ضبط الكتلة النقدية، في حين سيُحول جزء من الودائع إلى أدوات مالية مساهمة للمشاركة في رأسمال المصارف الموضوعة لديها بقيمةٍ قد تُناهز 12 مليار دولار وذلك في إطار تحويل الودائع إلى أسهمٍ في المصارف القابلة للاستمرار. وبهذا، تكون الودائع قد انقسمت إلى 6 أنواع تبلغ قيمتُها 69,8 من مجموع 93,5 مليار دولار.

يُعوّل أصحاب الودائع اليوم على بدء عملية إعاة هيكلة القطاع المصرفي التي تسمح بإجراء رسملة شاملة للمصارف تمكنها من الحفاظ على ما تبقى من الودائع وتمنحها القدرة على سدادها للمودعين بقيمتها الدولارية. فبين فشل تنفيذ خطّة التعافي المالي وفشل التوقيع مع صندوق النقد، ومع عدم البدء بإعادة هيكلة المصارف والفشل في إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، وتشابك المصالح السياسية والمصرفية وعدم تقبل تحمل الخسائر المالية تضيع أموال المودعين يوماً بعد يوم من دون أي أمل في استردادها.

شارك المقال