هل يكلف سلامة تصريف “الأعمال النقدية”؟

زياد سامي عيتاني

هدأت فجأة، تحت وطأة تأجيج الملف الرئاسي، العاصفة “الرعدية” التي هبت بفعل مذكرة التوقيف الفرنسية بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بعدما خيّمت على الأجواء اللبنانية، من دون أن تتسبب بأي أضرار على مكانة الحاكم، الذي لا يزال يؤدي مهامه الوظيفية، ببرودة أعصابه المعهودة، ولم تدفعه الحملات التي تعرض لها، ولا المطالبات بإستقالته، الى أن يتخلى طوعاً عن منصبه، كما لم تتمكن السلطة السياسية من التوافق على إقالته، التي تحتاج الى قرار مجلس الوزراء.

وفي الوقت الذي توقعت فيه مصادر مالية ومصرفية، أن تنعكس مذكرة التوقيف بحق سلامة إضطراباً في السوق المالية، وإرتفاعاً في سعر صرف الدولار الأميركي، إما بسبب البلبلة التي يمكن أن يحدثها توقيف سلامة، أو من خلال إقدام الحاكم على ذلك، للضغط على السلطة السياسية، بهدف تسلحها بمبدأ “سيادة القضاء اللبناني”، الذي من شأنه أن يحميه (!)، خصوصاً وأن هذه السلطة تخشى خروج سلامه عن صمته، إذا ما حاولت تحويله إلى “كبش فداء” نيابة عنها، وهو من يوصف بـ”صندوق أسرار” لحقبة إمتدت الى أكثر من 30 عاماً، ما يجعله قادراً على إحداث زلزال من الفضائح.

لكن “التلاعب” بالسوق المالية لم يحصل، إذ فوجئ الجميع بإستقرار سعر صرف الدولار وثباته، لا بل تراجعه البطيء، من دون أي مبرر سياسي أو إقتصادي لذلك، ما يؤكد أن سلامة لا يزال متماسكاً وماسكاً بسوق القطع، ويملك من القدرات ما يمكنه من التحكم بها.

فقد يكون سلامة تلقى تطمينات من السلطة السياسية ذات التأثير المباشر على السلطة القضائية بأنه محصن بموجب القانون، الذي يجيز للدولة اللبنانية عدم تسليم مطلوبين لديها، كونها تملك معيار السيادة القضائية. وربما هذا ما جعل سلامة مطمئناً، ومتأكداً من أن وجوده على الأراضي اللبنانية، هو المكان الأفضل لمنع تطبيق مذكرة التوقيف الصادرة عن القضاء الفرنسي، كونه محصناً بالسيادة القضائية اللبنانية، ومحمياً بالنصوص القانونية التي تقف عائقاً أمام ضبطه وإحضاره.

ولاية حاكم مصرف لبنان تنتهي نهاية شهر تموز المقبل، ولذلك فإن مسألة تنحيه من عدمها، ليست بالأمر المهم كونه سيرحل في نهاية المطاف. لكن الأمر المهم يتعلق بما بعد إنقضاء ولاية سلامة، إذا ما إستمر الشغور الرئاسي، وبقيت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، حكومة تصريف الأعمال في نطاقها الضيق.

فهل تمتلك حكومة تصريف الأعمال سلطة تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، في غياب رئيس للجمهورية، على الرغم من أهمية هذا المركز بالنسبة الى الطائفة المارونية؟

وفي السياق نفسه، ثمة جدل قانوني أيضاً إذا ما كان يجب أن يتولى نائب الحاكم صلاحياته عند شغور المنصب بصورة مؤقتة؟ وهل ستتساهل المرجعيات المارونية في إنتقال تلك الصلاحيات الى النائب الأول الذي هو من الطائفة الشيعية؟

في الوقت الذي يعتبر الوضع النقدي في لبنان هو الأسوأ في تاريخه، لا بل من بين الأسوأ في التاريخ، وأموال المودعين محتجزة، وبينما العملة الوطنية تترنح على وقع أسعار صرف متعددة ومتقلبة وغير متجانسة، تبدو مهمة أي شخص يتولى قيادة البنك المركزي بعد رياض سلامة، مهمة “إنتحارية”! وهذا ما سيجعل إيجاد مرشحين للمنصب أمراً متعذراً، مع الأخذ في الاعتبار صعوبة حصول توافق سياسي على إسم يتولى وظيفة بهذه الحساسية.

إن تعذّر إيجاد خليفة لسلامة واستمرار الفراغ في رئاسة الجمهورية، سيؤججان النقاش بشأن موقع المسيحيين في الحكم ويزيدان من حجج من يعتبرون أن هناك إستهدافاً لذلك الموقع.

إذا كان المنطق يقتضي أن تتركز الجهود حالياً على مواصفات الحاكم الجديد لمصرف لبنان، والذي يجب أن يوحي بالمصداقية، بما يكفل إستعادة الثقة بالليرة اللبنانية والنظام المصرفي اللبناني، تمهيداً للتوافق السياسي عليه، ليعيّنه مجلس الوزراء، فإن الواقع خلاف ذلك!

لذا، لا يزال مشهد ما بعد إنتهاء ولاية سلامة ضبابياً في ظل التناقض الكبير بين القوى السياسية، الأمر الذي يعرقل إمكان الاتفاق على تعيين بديل له، خصوصاً بالتزامن مع الجدل القانوني حول صلاحية حكومة تصريف الأعمال في هذا التعيين، ما يزيد الأمر تعقيداً!

وسط هذه التعقيدات، وأهمية موقع حاكم مصرف لبنان، الذي لا يحتمل الفراغ، لا سيما وأنه يتمتع بصلاحيات كاملة، ما هي “السيناريوهات” المتداولة لتجنب الفراغ، وبالتالي لتسيير أهم مرفق عام بعد الجيش اللبناني؟

يبدو أن الأمور تتراوح بين الخيارات الثلاثة الآتية:

1- إستلام النائب الأول وسيم منصوري مهام الحاكم لفترة قد تستمر طويلاً إذا لم تحصل تسوية سياسية في البلاد، وهو ما يرفضه بصورة قاطعة (حتى الآن) الرئيس نبيه بري، وهوالمحسوب عليه سياسياً، لسببين: الأول، حتى لا يثير حفيظة المرجعيات والقيادات المارونية وحساسيتها. الثاني، ليس مستعداً لتحمل تبعات ما سوف يؤول إليه الوضع المالي من المزيد من الإنهيار الكارثي المتوقع، في حال عدم التوصل إلى تسوية سياسية، تنهي الشغور الرئاسي. علماً أن بعض المراقبين يرى في موقف الرئيس بري هذا، ورقة ضغط سياسية، يستخدمها على صعيد الملف الرئاسي.

2- إستقالة النائب الأول، ورفض إستلام مهام الحاكم، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان نصاب المجلس المركزي، وبالتالي الاضطرار إلى تعيين حارس قضائي على المصرف المركزي.

3- الإبقاء على رياض سلامة في منصبه، إلى حين التمكن من تعيين خلف له، بموجب مقتضيات “تسيير المرفق العام” وعدم توقفه، وعلى قاعدة “تصريف الأعمال” النقدية.

الخيارات الثلاثة المتداولة في الدوائر السياسية، تنطوي على مخاطر جسيمة تبدأ بإستمرار الانهيار المالي وإستنزاف الخزينة (التي تموّل من أموال المودعين المحجوزة)، ولا تنتهي بإنعدام التثقة الخارجية التامة، بما تبقى من أدنى الحد الأدنى بلبنان المحتضر.

شارك المقال