إنهيار القطاعات يواكب تفاقم الضغوط النقدية

سوليكا علاء الدين

على مدى أربع سنوات من السقوط المتواصل نحو قعر الهاوية، لم ينجح لبنان المُشتّت داخلياً في الوصول حتى اليوم إلى أي مخرج حقيقي للأزمة الخانقة التي لا تزال في أوج احتدامها وشراستها من دون أي رادع. فمع استمرار شد الحبال بين الأطراف السياسية المُتنازعة، يشتدّ الخناق على رقاب اللبنانيين يوماً بعد يوم وتزداد الضغوط النقدية عليهم بحيث تتعرّض القدرة الشرائية للأسَر اللبنانية الى ضغوط غير مسبوقة. هذا ما أكّده “مؤشر جمعية تجار بيروت – فرنسبنك لتجارة التجزئة” للفصل الأول من العام 2023، وهو من المؤشرات التي أصدرها القطاع الخاص منذ نهاية العام 2011 من أجل سدّ ثغرة المعلومات المتاحة بصورة دورية ومنتظمة لقطاعات محدّدة في الاقتصاد اللبناني.

المؤشر أظهر أنّ أرقام الأعمال الإسمية (Nominal) المجمّعة لقطاعات تجارة التجزئة ما بين الفصل الأول من 2022 والفصل الأول من 2023 تشير إلى وجود ارتفاع في هذه الأرقام بنسبة توازي 28.30 في المئة. ويُمثّل هذا الارتفاع نسبة الارتفاع في أرقام الأعمال الإسمية بالليرة اللبنانية قبل التثقيل، أمّا بعد عملية تثقيل تلك الأرقام بنسبة مؤشر غلاء المعيشة للفترة المعنية (+ 263.84 في المئة)، فقد تبيّن أنها سجّلت بالفعل إنخفاضاً كبيراً لامس كالعادة الـ 100 في المئة، وذلك في قطاعات الأسواق التجارية كافة بما فيها قطاع الوقود حيث سجّل أيضاً إنخفاض في حجم الكميات التى تمّ بيعها (- 5.02 في المئة) بالمقارنة مع الفصل الأول لسنة 2022.

وفق المؤشر، الأرقام هذه عكست الأحوال الاقتصادية المتردّية في البلاد، والانكماش الشديد على الرغم من الاعلان عن نمو بلغ 2.50 في المئة خلال العام 2022، إلّا أن الانهيار لا يزال مستمراً على أرض الواقع وفي معظم القطاعات، نتيجة التردّي المستمر في القدرة الشرائية لدى الأسر اللبنانية التي تشهد حتى بعد زيادات الرواتب والأجور، مزيداً من التراجع، بالإضافة إلى تحليق سعر الدولار الذي بلغ 143.000 ليرة لبنانية في أواخر شهر آذار، قبل أن يتدخل البنك المركزي دافعاً بالليرة إلى التراجع مجدّداً إلى ما يُقارب الـ 110.000 ليرة.

وفي ما يتعلّق بالتضخم، وبالتزامن مع التدهور الحاصل في قيمة الليرة اللبنانية، فقد كان لمفاعيل قرارات الحكومة ووزارة المالية والبنك المركزي، من حيث الضرائب والرسوم المتصاعدة والمتراكمة جرّاء رفع الدولار الرسمي والجمركي، والغموض حول السعر المعتمد لاحتساب الضريبة على القيمة المضافة، بالاضافة إلى العوامل الاقليمية والدولية، التأثير الكبير في تسارع إرتفاع معدّل التضخم العام. وبلغت نسبة الزيادة في مؤشر التضخم ما بين الفصل الأول لسنة 2022 والفصل الأول لسنة 2023 مستوى 263.84 في المئة وهي زيادة غير مسبوقة، كما كان لافتاً الارتفاع الذي سجله غلاء المعيشة ما بين الفصل الأخير لسنة 2022 والفصل الأول لسنة 2023، والذي بلغ 81.40 في المئة، وهو ما وصفه المؤشر بالأمر المقلق جداً بالنسبة إلى المسار المقبل.

أمّا لجهة المواد الغذائية، التي تحظى بالأولوية في السلة الإستهلاكية للأسر اللبنانية، فقد أشارت تقارير دولية الى أن نسبة تضخم أسعار الغذاء في لبنان باتت الأعلى عالمياً بحيث بلغت مستوى 139.00 في المئة في نهاية شهر آذار الماضي. وتبعاً للموشر، فقد شهدت النسب ما بين الفصل الأول لسنة 2022 والفصل الأول لسنة 2023 ارتفاعات ملحوظة في القطاعات الحيوية كافة، لا سيما الاتصالات والصحة والمواد الغذائية والمشروبات والملابس، ناهيك عن قطاع النقل. وكما في نسب الارتفاع على مدى 12 شهراً، أظهرت النتائج أن نسب الإرتفاع الفصلية قد طالت القطاعات الأساسية ذاتها، إنمّا بنسبة أشد في قطاعات المواد الغذائية والمشروبات والمطاعم وذلك لعدّة عوامل أساسية أبرزها زيادة الكتلة النقدية المستمرّة، لا سيما بعد رفع سقوف الأجور والمساعدات الاجتماعية، الدولرة المتسارعة في الأسواق (والتي قدّرها البنك الدولي بـ 9.9 مليارات دولار في أواخر عام 2022، أي ما يقارب الـ50 في المئة من الناتج القائم)، بالاضافة إلى تحوّل الاقتصاد اللبناني أكثر فأكثر إلى إقتصاد نقدي، مع كل تداعياته لناحية النظرة الدولية الى هذه الحالة.

وبناءً على ذلك، لفت المؤشر إلى أنّ التجار حتى لو تمكنوا من تحقيق مبيعات وأرقام أعمال، سوف يجدون – بعد التثقيل بنسب التضخم الخاصة بقطاعاتهم وبعد إحتساب الفروق في أسعار الدولار الأميركي، أنّ تلك الأرقام لا تزال تتراجع بصورة مستمرة. وهكذا، تكون النتائج المجمّعة لقطاعات تجارة التجزئة كافة قد سجّلت خلال الفصل الأول لسنة 2023 المزيد من التراجع في أرقام الأعمال الحقيقية المجمّعة، بحيث بلغ التراجع الحقيقي (أي بعد التثقيل بنسبة التضخم) للنشاط المجمّع نسبة 80.92 في المئة ما بين الفصل الأخير لسنة 2022 والفصل الأول لسنة 2023، بعد إستثناء قطاع الوقود والمحروقات بالمقارنة مع نسبة 21.28 في المئة في الفصل السابق.

وفي ضوء ما سبق، وبعد الاشارة إلى أنّ المؤشر الأساس (100) الذي تم تبنّيه هو للفصل الرابع لسنة 2011، وأن تضخم الأسعار خلال الفصل الأول من سنة 2023، وفقاً لادارة الاحصاء المركزي، بلغ + 81.40 في المئة، سجّل “مؤشر جمعية تجار بيروت – فرنسَبنك لتجارة التجزئة” 0.83 للفصل الأول من سنة 2023 مقابل 1.07 في الفصل السابق له، بحيث لم يكن مفاجئاً أن يرزح المؤشر تحت عتبة الـ1، بإنخفاض يلامس الـ 99 في المئة بالمقارنة مع ما كان عليه في الفصل الرابع من سنة 2011.

لم يُخفِ مؤشر التجار قلقه من هذه الأرقام والمؤشرات التي تضع الجميع أمام سيناريو إنهيار لا حدود واضحة له، خصوصاً في غياب تبلور أي خطة، أقلّه لوقف التدهور الحاصل، إذا ما كان رسم خطة تعافٍ متعذراً. وعلى الرغم من ذلك، سيطرت النظرة التفاؤلية على الختام مُشدّداً على أنّ اللبنانيين عموماً، والقطاعات الخاصة بما فيها قطاع التجار الصامدين خصوصاً، لا يزالون متمسـّكين بأمل أن الفينيق سوف يقوم مجدّداً من رماده، وأنّ لحظة إنعطاف المسار باتت قريبة، مع إعداد وتفعيل خطة تعافٍ كتلك التي قدّمتها الهيئات الاقتصادية اللبنانية لاستنهاض النشاط الإقتصادي بما تضمّنته من معاودة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والجهات المانحة الأخرى، واستعادة العلاقات الوطيدة مع دول الخليج لما لتلك الدول من ثقل في تحريك العجلة الاقتصادية في لبنان.

شارك المقال