صندوق النقد يحذر لبنان ويدعو الى حماية صغار المودعين

هدى علاء الدين

أعلن صندوق النقد الدولي أن أزمة لبنان الاقتصادية تفاقمت نتيجة عدم اتخاذ إجراء على صعيد السياسة​ ومقاومة للإصلاحات من أصحاب مصالح، كاشفاً عن توقعات تشير إلى أن الدين العام اللبناني قد يصل إلى حوالي 550 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي بحلول 2027 إذا استمر الوضع القائم، في الوقت الذي تأتي فيه إجراءات الاصلاح دون ما نصح به ودون التوقعات. الصندوق الذي اعتبر أن تأخير إعادة هيكلة القطاع المالي في لبنان كلفت المودعين 10 مليارات دولار منذ العام 2020، أشار إلى أن الليرة اللبنانية خسرت 98 في المئة من قيمتها، في حين خسر مصرف لبنان ثلثي احتياطاته من العملة الأجنبية.

تصريحات صندوق النقد جاءت في تقرير له بعد اختتام المجلس التنفيذي للصندوق مشاورات المادة الرابعة مع لبنان بتاريخ 1 حزيران 2023، والتي تنص على إجراء مناقشات ثنائية مع البلدان الأعضاء على أساس سنوي، بحيث يقوم فريق من خبراء الصندوق بزيارة البلد العضو، وجمع المعلومات الاقتصادية والمالية اللازمة، وإجراء مناقشات مع المسؤولين الرسميين حول التطورات والسياسات الاقتصادية في هذا البلد، على أن يُعِد الخبراء تقريراً يشكل أساساً لمناقشات المجلس التنفيذي في هذا الخصوص بعد العودة إلى مقر الصندوق.

وبحسب التقرير، فقد شهد الاقتصاد اللبناني انكماشاً ناهز الـ 40 في المئة وسجل التضخم معدلات غير مسبوقة، وعلى الرغم من بعض الاستقرار الذي لحق بالاقتصاد عام 2022، إلا أنه لا يزال يعاني من ركود حاد نتيجة الحالة الشديدة من عدم اليقين والقيود في القطاع المصرفي والنقص الشديد في إنتاج الكهرباء وارتفاع أسعارها، والتي تُشكل جميعها عوامل رئيسة تعوق النشاط الاقتصادي. من جهة أخرى، وعقب التدهور الكبير في سعر الصرف خلال الربع الأول من العام 2023، ازدادت دولرة النقد وتسارعت وتيرة التضخم لتصل إلى 270 في المئة على أساس سنوي في شهر نيسان الماضي، بالتزامن مع ارتفاع عجز المالية العامة إلى 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي عام 2022 بسبب إنهيار الإيرادات، وارتفاع عجز الحساب الجاري إلى حوالي 30 في المئة من إجمالي الناتج المحلي بسبب الزيادة الكبيرة في حجم الواردات، في ظل استمرار الاستثمار الأجنبي المباشر والتدفقات المالية الوافدة الأخرى على مستوياتها المتدنية.

ومع تصاعد حالة عدم اليقين المخيمة على الآفاق الاقتصادية التي ترتبط بخيارات السياسات المعتمدة من السلطات، فمن شأن التنفيذ الحاسم لخطة شاملة للتعافي الاقتصادي أن يحد بصورة تدريجية وثابتة من الاختلالات وأن يشكل ركيزة للسياسات للمساعدة في استعادة الثقة وتسهيل العودة إلى مسار النمو. غير أن استمرار الوضع الراهن يمثل الخطر الأكبر على الآفاق، بحيث ستظل مستويات الثقة متدنية وستزداد الدولرة النقدية للاقتصاد في حال الاستمرار في إرجاء الاصلاحات. كما سيواصل سعر صرف الليرة تراجعه لتبقى بذلك معدلات التضخم مرتفعة، وسيتحول النشاط الاقتصادي إلى القطاعات غير الرسمية، ما سيزيد من صعوبة تحصيل إيرادات المالية العامة.

من جهته، سيواصل مصرف لبنان المثقل نتيجة الخسائر غير المعالجة وفقدان الثقة، خسارة احتياطياته الخارجية، ولن تتمكن المصارف من أداء دورها المهم في توفير الائتمان، وسيستمر تباطؤ النمو الحقيقي. كذلك ستواجه الوضعية الخارجية تقلبات حادة في ظل المساعدات المحدودة من الشركاء متعددي الأطراف والاقليميين، وسيبقى الدين العام على مسار غير مستدام نظراً الى أن من المستبعد السير في إعادة الهيكلة في ظل غياب الإصلاحات، ما سيحد بدرجة كبيرة من قدرة الدولة على الاقتراض. أما لناحية قدرة الدولة، فستبقى أيضاً محدودة على توفير الخدمات، بحيث أن تدني الايرادات وغياب التمويل سيزيد من الضغط على النفقات (الاستثمار الرأسمالي، التوظيف والأجور)، وستزداد الأوضاع الاجتماعية هشاشة بمرور الوقت.

وعبّر المديرون التنفيذيون في صندوق النقد عن بالغ قلقهم إزاء الأزمة العميقة متعددة الأبعاد التي تواجه لبنان لأكثر من ثلاث سنوات والتي أدت إلى انهيار حاد في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وعلى الرغم من إقرارهم بصعوبة الوضع السياسي، أعربوا عن أسفهم حيال الإجراءات المحدودة التي اتخذت على مستوى السياسات للتصدي للأزمة، مشيرين إلى المخاطر والتكلفة المتزايدة الناجمة عن مواصلة إرجاء الإجراءات اللازمة. ودعوا إلى ضرورة التنفيذ الحاسم لخطة إصلاح شاملة لحل الأزمة وتحقيق التعافي المستدام. كما شددوا على أهمية المصداقية في إعادة هيكلة النظام المالي لاستعادة سلامته واستمراريته عبر اتخاذ إجراءات مسبقة لمواجهة الخسائر الضخمة، وضرورة توفير أقصى حماية ممكنة لصغار المودعين. وأشار عدد من المديرين إلى وجوب النظر في المزيد من الخيارات لتوفير حماية إضافية للمودعين وفق المبادئ المتفق عليها، ما قد يساهم في دعم جهود إعادة الهيكلة مع ضرورة معالجة مكامن الضعف في قانون السرية المصرفية وتعزيز الإطار المؤسسي للمصرف المركزي.

كذلك أكدوا أهمية خفض معدلات التضخم المرتفعة، ومعالجة التدهور الحاد في سعر الصرف، وإعادة بناء مصداقية المصرف المركزي، وتشديد السياسة النقدية وتعزيز الجهود للحؤول دون تمويل الحكومة من خلال المصرف المركزي، منوهين بأهمية توحيد أسعار الصرف الرسمية من أجل تنظيم السياسة النقدية والحد من الضغوط على احتياطيات المصرف المركزي وزيادة إيرادات المالية العامة. كما شددوا على ضرورة ضبط أوضاع المالية العامة على المدى المتوسط، مصحوباً بإعادة هيكلة الدين العام وإقرار ميزانية لعام 2023 تتسم بالمصداقية وتقوم على إجراءات لإدارة الضرائب والإيرادات لدعم الإنفاق الاجتماعي والإنمائي الضروري، إلى جانب إقرار قانون حديث لادارة المالية العامة سيساعد في اعتماد ممارسات أكثر حزماً وتعزيز الضبط المالي. كما أوصوا باتخاذ إجراءات لتحسين الحوكمة ودعم استمرارية العمليات في المؤسسات العامة وإصلاح نظام التقاعد وتنفيذ إصلاحات في قطاع الكهرباء وتحسين الأداء التشغيلي والاستدامة المالية لمؤسسة الكهرباء. ولفتوا إلى أن استعادة ثقة الرأي العام تستلزم اتخاذ خطوات لتعزيز الحوكمة، ووضع معايير وممارسات لمكافحة الفساد وغسل الأموال وتمويل الارهاب.

مع انهيار الليرة وخسارة “المركزي” معظم احتياطيه من العملة الأجنبية وتدني قدرته على تلبية الطلب على العملة الأجنبية وتأمين احتياطاتها النقدية، يزداد الوضع الاقتصادي والمالي في البلاد سوءاً، الأمر الذي يتطلب إجراءات جادة لتحسين الوضع الاقتصادي وتقوية العملة المحلية واستعادة الثقة بالنظام المالي وتحسين إدارة الديون من أجل خفض قيمة الدين العام من الناتج المحلي لتمكين لبنان من إدارة إقتصاده بطريقة فاعلة، لا سيما وأن ارتفاع قيمة الدين العام يستنفد موارد الدولة ويزيد من ضغوط الاقتراض، ما يؤدي إلى تراكم فوائض الموازنة السلبية وارتفاع تكلفة الفوائد على الديون، فضلاً عن مراجعة سياسة الإنفاق وتقليصها وتعظيم العوائد الضريبية والبدء بعملية إعادة هيكلة المصارف والدين العام والتي تُسهم جميعها في تجاوز هذه التحديات الاقتصادية الكبيرة.

شارك المقال