يشهد منحى الدولار منذ بداية الأزمة في خريف العام 2019، تحرّكات مُتفاوتة وتقلّبات غير اعتيادية لامست حدّتها مستويات قياسية صادمة، ولا يزال حتى اليوم يشغل بال اللبنانيين وتفكيرهم نظراً الى ارتباطه الوثيق بتفاصيل حياتهم اليومية. فالمواطنون يحمّلون التفلت الحاصل في سعر الصرف ومن ورائه سوء إدارة الطبقة الحاكمة التي أوصلتهم إلى قعر الهاوية، مسؤولية تدهور عملتهم الوطنية وتدنّي قدرتهم الشرائية وتراجع مستواهم المعيشي والاجتماعي في ظل الاستمرار في تطبيق سياسة تعددية الأسعار وعدم القدرة على اعتماد سعر موحّد للدولار.
سلسلة من الأحداث أسهمت وعلى مدى أكثر من أربع سنوات في اتخاذ الدولار مساراً تصاعدياً، غير أنّ دولار السوق السوداء لحظ خلال الأشهر القليلة الماضية نوعاً من الاستقرار النسبي نتيجة تدخل مصرف لبنان للجم ارتفاعه بعد تجاوزه عتبة الـ 145 ألف ليرة للدولار الواحد، عارضاً بيع الدولار على منصة “صيرفة” من دون أيّة قيود أو سقوف للمؤسسات والتجار والأفراد على حد سواء. وبما أنّ “المركزي” يواصل سياسة ضخّ الدولارات بكميات كبيرة في السوق اللبنانية من أجل امتصاص الكتلة النقدية بالليرة، من المُتوقّع أن يبقى سعر الصرف على استقراره المُصطنع حتى نهاية الصيف، مع امكان تسجيله بعض التراجعات الطفيفة كما هو حاصل اليوم ووصوله إلى ما يُقارب الـ91 ألف ليرة. وتُشير الأرقام إلى أنّ متوسط أرقام التداول اليومي عبر “صيرفة” بلغت منذ أواخر آذار حتى نهاية شهر حزيران ما يقارب الـ150 مليون دولار، ليُصبح مصرف لبنان اللاعب الأكبر في سوق الصرف والمُتحكّم الأقوى بحجم الكتلة النقدية بالعملة الوطنية.
وإلى جانب دور “المركزي” في ضبط تفلّـت سعر الصرف، تلعب أيضاً عوامل إضافية دوراً ملحوظاً في الحفاظ على هدوء الدولار أبرزها بدء موسم الصيف السياحي وقدوم المغتربين اللبنانيين والسياح العرب والأجانب وضخّهم للدولارات وتوفيرها في السوق. كذلك، فإنّ دولرة الاقتصاد وإتمام التعاملات النقدية بالعملة الخضراء وقيام المواطن اللبناني بالحصول على احتياجاته ومُستلزماته مقابل الدفع بالدولار، كلّها مُحرّكات أدّت مُجتمعة إلى إنخفاض الطلب على الليرة اللبنانية وبالتالي، فإنّ تراجع الدولار هو نتيجة حركة السوق القائمة التي لا تعاني في الوقت الحالي من أي نقص أو شح في السيولة، بالاضافة إلى استمرار العمل في منصة “صيرفة” وهو العامل الأهم، بحيث تدور الكثير من التساؤلات حول مصير هذه المنصة لا سيما بعد انتهاء ولاية رياض سلامة نهاية الشهر الجاري، والمسار الذي سوف يسلكه ملف الحاكمية وما إذا كانت سوف تُطبّق أحكام قانون النقد والتسليف لجهة تسلّم نائب الحاكم الأول وسيم منصوري صلاحيات الحاكم بالنيابة إلى حين الإتفاق على تعيين حاكم جديد وماهيّة قواعد السيناريو التي سوف يعتمدها في ما يتعلق بأداء “صيرفة”.
على ما يبدو، انّ كميّة الدولارات التي يتنعّم بها لبنان خلال فترة الصيف المُتزامنة مع آلية العمل التي يستخدمها “المركزي” لكيفيّة لجم سعر الصرف، سوف تُحافظ نوعاً ما على هدوء مُصطنع للدولار لفترة إضافية جديدة. فالتحسّن الذي يطرأ على قيمة الليرة اللبنانية مُقابل الدولار اليوم ما هو إلّا تحسن وهمي لا يعكس واقع الوضع الاقتصادي المأزوم. كما أنّ مُستقبل الليرة وتراجع الدولار رهن بالتطورات والاستحقاقات السياسية والنقدية القادمة بدءاً بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة قوية قادرة على متابعة المفاوضات والاتفاق مع صندوق النقد الدولي وصولاً إلى إعادة تفعيل عمل مؤسسات الدولة وقطاعاتها وانتظام الحياة فيها للنهوض بالإقتصاد. فالإبقاء على سياسة اللاحلول، واللاإصلاحات، واللاإرادة واللاإنقاذ ليس من مصلحة لبنان الذي وضعه تقرير صندوق النقد الدولي أمام خيارين؛ إمّا أن يطبّق الإصلاحات المتّفق عليها مع الصندوق ويُترجمها بسياسات تحقّق نمواً بمعدل 4 في المئة في العام 2025، أو أن يستمرّ في السياسات الحالية التي تؤدّي إلى نتائج لا يمكن عكس مفاعيلها مستقبلاً. هذا يعني أنّ الحل يبدأ أوّلاً وأخيراً بتنفيذ المشاريع الاصلاحيّة المطلوبة، كما أنّ الدولار لن يُعاود مساره التنازلي في حال عدم تأمين استقرار سياسي يؤدّي بدوره إلى استقرار اقتصادي ونقدي ومالي، ليقف لبنان ودولاره على مُفترق طرق بانتظار ما ستؤول إليه مُعطيات الأيام والأسايبع وربّما الأشهر المقبلة.