التجار ينافسون الدولار

سوليكا علاء الدين

مع توسّع دائرة تداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يشهدها لبنان وغرق البلاد في بؤر الجوع المُفترسة ودهاليز الفقر المُدقع، تتصاعد شكاوى المواطنين من الارتفاع الفاحش لأسعار السلع والمواد الغذائية. فتبعاً لبيانات البنك الدولي، يتصدّر لبنان قائمة البلدان التي ارتفعت فيها معدلات التضخم الغذائي على أساس سنوي بنسبة اسمية وصلت إلى 350 في المئة وبقيمة واقعية بلغت 80 في المئة وذلك خلال الفترة المُمتدّة من نيسان 2022 حتى نيسان 2023. وفي أحدث تقارير البنك الصادرة تحت عنوان “تزايد انعدام الأمن الغذائي في العالم”، احتلّ لبنان أيضاً صدارة قائمة الدول العشر الأكثر تضرّراً من تضخّم أسعار الغذاء بنسبة تضخّم سنوية سجّلت 139 في المئة في أسعار الغذاء. وبالتوازي من ذلك، أشار برنامج الأغذية العالمي إلى أنّ 46 في المئة من الأسر اللبنانية تُعاني من انعدام الأمن الغذائي الذي بات يشكّل مصدر قلق بالغ لها لا سيما مع الزيادة المستمرة في أسعار المواد الغذائية.

لبنان الذي لم ينجُ من براثن الجوع أيضاً، كان قد انضمّ إلى نادي البلدان التي تُعاني من وجود نقاط جوع ساخنة وعلى بُعد مرتبة واحدة من حدوث مجاعة، بحيث أشارت الأرقام إلى انحدار تصنيف نحو 354 ألف مقيم في المرحلة الرابعة أي حالة الطوارئ لانعدام الأمن الغذائي وارتفاع نسبة السكان الذين يواجهون جوعاً إلى 2.3 مليون فرد بين مواطنين ونازحين. وفي ضوء هذه المعطيات والمؤشرات، بات بالامكان القول بأنّ لبنان أصبح بلداً منكوباً معيشيّاً وفاقداً لأدنى مقومات الحياة. فالأزمة الاقتصادية ضيّقت الخناق على رقاب اللبنانيين وجعلتهم رهينة للفقر والعوز والحرمان وباتوا عاجزين عن تأمين مُستلزمات حياتهم اليومية بعد أن فقدت عملتهم الوطنية أكثر من 95 في المئة من قيمتها وتآكلت قدرة رواتبهم الشرائيّة نتيجة جنون سعر صرف الدولار.

إلاّ أنّ الأمر لم يتوقّف عند هذا الحد، فإلى جانب تداعيات الأزمة، برزت زُمرة من “تجّار الأزمة” الذين أحكموا قبضتهم على الأسواق وفرضوا سيطرتهم على السلع والبضائع ورفعوا الأسعار بصورة خيالية. فالمواطن الذي لا يكفيه وقوعه تحت رحمة تقلّبات سعر الصرف، وقع أيضاً ضحيّة جشع الكثير من التجار وأصحاب المحال والسوبرماركات، إذ إنّ المُعضلة لم تعد تقتصر على ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء وحسب، إنّما في أولئك الذين لا يتوانون عن استغلال الأوضاع الاقتصادية والمالية المُتردية لإشباع نفوسهم الجائعة على حساب جيوب اللبنانيين الفارغة. فعلى الرغم من المسار التراجعي الذي يشهده الدولار منذ آخر قفزة جنونية له في آذار المُنصرم، إلاّ أنّ موجة ارتفاع الأسعار لا تزال تُلازم السلع الغذائية من دون حسيب أو رقيب باستثناء بعض الانذارات التي تُطلقها بين الحين والآخر وزارة الاقتصاد التي حذرت من أي تلاعب في عمليات البيع أو تقصّد احتكار المواد الغذائية بغية تحقيق أرباح غير مشروعة، مُعلنةً أنها لن تتقاعس عن اتخاذ الاجراءات الردعية بحق كل من تسوّل له نفسه التلاعب بالأمن الغذائي للبنانيين.

تحذيرات الوزارة تبقى مجرّد حبر على ورق ولا تشكّل أي رادع للتجار من أجل تعديل لائحة أسعارهم وفقاً للمسار الذي يسلكه الدولار. ففي اللحظة التي يرتفع فيها الدولار، يعمد هؤلاء إلى رفع أسعار السلع بأصنافها كافة وبسرعة قياسية بين ليلة وضحاها. أمّا في حال انخفاضه، فإنّهم يمتنعون عن تنزيل أسعارهم بذريعة أنهم قد اشتروا بضائعهم على سعر مرتفع، لا بل باتوا يلجؤون إلى رفع تسعيرة السلع بالدولار من تلقاء أنفسهم من أجل زيادة أرباحهم غير المشروعة. ومن المُلاحظ أيضاً، أنّه ومع بدء موسم الصيف، تشهد الأسعار ارتفاعات غير مبرّرة بحيث طاول الغلاء الفاحش المغتربين والسياح القادمين من أجل قضاء إجازاتهم في لبنان والذين أبدوا امتعاضهم من الأسعار المرتفعة حتى باحتسابها على الدولار وكأنّ الموسم السياحي بات فرصة لاستغلالهم واقتناص أموالهم.

معاناة اللبنانيين مع موجات الغلاء المُطردة قد تطول ما دامت مؤسسات الدولة لا تقوم بدورها في ضبط الأسواق والتحكم بمعدّلات ارتفاع السلع والقضاء على أنواع الجشع كافة التي تُمارس ضدّهم . فغياب الدولة وانعدام الرقابة وآليّات المُحاسبة وتأمين الغطاء للممارسات اللاقانونية واللاأخلاقيّة تُشجّع التجار على التمادي في استغلال المواطنين وابتزازهم غير مُكترثين لأوجاعهم ومآسيهم التي لا تنتهي. فهل من رادع لهؤلاء؟

شارك المقال