اليوم الأخير لرياض سلامة… الحاكم بأمر السياسة

هدى علاء الدين

شكّل رياض سلامة مادة دسمة خلال السنوات الأربع الأخيرة حتى بات اسمه الأكثر تداولاً والأكثر قدرة على التحكم بمسار الأزمة النقدية التي لحقت بلبنان. سلامة الذي اعتبر صانع النهوض في زمن البحبوحة وقائد الانهيار في زمن الأزمات، يطوي اليوم صفحة حاكمية مصرف لبنان بالكثير من الانتقادات والاتهامات التي طالته لجهة دور “المركزي” في قيادة لبنان نحو الانهيار. فهل يتحمل سلامة مسؤولية الانهيار الكبير وحيداً بعد ثلاثين عاماً من تربعه على عرش “المركزي”؟

لعب رياض سلامة دوراً مهماً في قيادة مصرف لبنان خلال فترة طويلة كان يحظى خلالها برضى السياسيين الذين لم يعارضوا يوماً سياسته النقدية والاجراءات التي كان يتبعها لتنفيذها. ومع كل خضة سياسية أو أمنية، كان سلامة عراب الاستقرار المصطنع منذ العام 2011، إذ يُمنح الضوء الأخضر لاتخاذ الاجراءات كافة التي تؤخر الانهيار وسط إدراك تام لمدى خطورة تأخر الاصلاحات التي كان يجب تنفيذها منذ العام 2002. فمنذ تسلمه الحاكمية وحتى العام 2019، لم يكن هناك أي صوت يعلو فوق صوته، وكوفئ على الهندسات المالية التي أجراها، عبر التمديد له عام 2017 في عهد الرئيس السابق ميشال عون من خلال اقتراح من خارج جدول أعمال مجلس الوزراء الذي وافق عليه بالاجماع.

على مدى سنوات طويلة، كان سلامة المموّل الأكبر للدولة اللبنانية من دون أي منازع، حتى أن العديد من الحكومات والوزارات أغفلت إجراء الاصلاحات التي تهدف إلى زيادة مواردها المالية عمداً. فضمانة التمويل من مصرف لبنان كانت صمام الأمان لفساد الوزارات المعنية التي هدرت مليارات الدولارت تحت عنوان “الحاجة تُبيح المحظورات”. اليوم، ومع انتهاء ولاية الحاكم، تبرّأ المستفيدون منه وحكموا عليه بالاعدام متناسين أنهم شركاء أصيلون في هذا الانهيار نظراً الى قدرتهم على التأثير واتخاذ القرارات التي تصب في مصالحهم الخاصة. فالنظام السياسي السائد في لبنان لم يكتفِ بتدمير نفسه بل دمّر معه كل ما فيه مصلحة للمواطن اللبناني الذي كان الضحية الوحيدة في كل هذه المآسي.

رياض سلامة الذي برّأ نفسه من الانهيار معتبراً أنه لا يتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور، أشار إلى أنه قدّم مطالعة لحكومة نجيب ميقاتي في العام 2012، حذر فيها من مخاطر عدم إجراء الإصلاحات. فهل يستطيع المتهم تبرئة نفسه بنفسه أم يبقى متهماً حتى تثبت براءته؟ قال سلامة إن “المركزي” ضبط السوق النقدية من خلال منصة “صيرفة”، لافتاً إلى وجود مشروع كان يقضي بتغيير النظام السياسي في الحكم لكنهم لم ينجحوا في تنفيذه عبر الانتخابات فأرادوا تمريره من خلاله، رافضاً شخصنة المصرف برياض سلامة، فالمصرف موّل الدولة ولم يصرف الأموال. وهنا يكمن بيت القصيد، إذ يُلام سلامة على عدم امتلاكه الجرأة الكافية على رفض تمويل الدولة التي أهدرت مليارات الدولارات، وعلى كونه شريكاً في تغطية عجزها وفسادها الذي جعل من احتياطي “المركزي” وأموال المودعين ملكاً لها من دون وجهة حق.

في لبنان، بلد المحاور السياسية وتصفية الحسابات، يعدّ الاستقرار السياسي عنصراً مهماً في تحقيق نجاح نظامه الاقتصادي، أياً كان هذا النظام، فهو يحتاج إلى بيئة سياسية مستقرة ليتمكن من النهوض والنمو بصورة فاعلة وتعزيز الثقة بالعملة الوطنية وتوفير الاستقرار المالي، لتكون بذلك السياسة في خدمة الاقتصاد وليس العكس كما كان سائداً في السنوات الأخيرة، بعدما تبين أن خدمة الأهداف السياسية كانت على حساب المواطن اللبناني حصراً. اليوم، تعكس أزمة مصرف لبنان أزمة حكم وحوكمة في آنٍ معاً بحيث فشل النظام السياسي ومؤسساته العامة في التصرف بصورة فاعلة وشفافة في إدارة الأزمة الاقتصادية، فكان السقوط المدوي في الانهيار قراراً سياسياً في الدرجة الأولى بمنع إجراء الاصلاحات المطلوبة، تم إلحاقه بسلسلة إجراءات وقرارات مالية واقتصادية أثرت بصورة مباشرة على استقرار النظام المصرفي والاقتصاد عموماً.

بعد سنوات من الأزمة يمكن القول بصورة واضحة ان الانهيار الاقتصادي ليس واقعاً صنعه شخص واحد يُدعى رياض سلامة، بل هو مسؤولية مشتركة تتحملها ثلاثة أطراف بطريقة مترابطة تتمثل في الدولة ومصرف لبنان والمصارف التجارية التي لا يمكن لها أن تتبرّأ من مسؤوليتها مهما دأبت على ذلك. فالانهيار الذي يشهده لبنان هو نتيجة تراكم المشكلات السياسية المعقدة والمتشعبة على مر السنوات وسط إدارة سيئة للنظام الاقتصادي والتلاعب المستمر بالأموال العامة، جعلت المصرف المركزي يقوم بتنفيذ سياسات نقدية غير مستدامة بهدف تأمين تمويل للحكومة وتأخير الانهيار الاقتصادي قدر المستطاع، حتى انفجرت الأزمة في العام 2019.

بين من يتهم رياض سلامة بالفساد وإدارة الاقتصاد بطريقة غير فاعلة ومشاركته في عمليات مشبوهة وبعدم تحقيق معايير الشفافية والمساءلة في إدارة عمليات مصرف لبنان، وبين من يراه ضابط الإيقاع في أزمة الدولار ومانع الانهيار الكبير للقطاع المصرفي، يُنهي اليوم مهمته بانتظار حاكم جديد يعمل على مواجهة التحديات الاقتصادية والمالية وتنفيذ الاصلاحات الهيكلية الضرورية التي تهدف إلى إعادة بناء الثقة وتعزيز الشفافية والاستقرار الاقتصادي والمالي. فهل سيكون لبنان أفضل حالاً بعد رياض سلامة؟

شارك المقال