حاكم بالانابة… ولبنان أمام مُنعطف مصيري

سوليكا علاء الدين

بعد ولاية حُكم قياسية دامت ثلاثين عاماً على رأس مصرف لبنان، ومرور أكثر من أربع سنوات على “انهيار القرن”، غادر رياض سلامة عرش الحاكميّة في ظل عجز القيادات السياسيّة عن تعيين إسم بديل ومن دون تمكّنه من تسليم دفّة القيادة الى حاكم أصيل خلفاً له. فمُهندس العمليّات النقديّة والماليّة منذ انتهاء الحرب الأهلية، طوى صفحة “المركزي” تاركاً وراءه مؤسّسة نقديّة مُتهاوية وعُملة وطنية مُنهارة وبنية اقتصادية مُتصدّعة، ونُخباً سياسية مُتصارعة وعاجزة عن الإتفاق على خطّة تعافٍ من أجل النهوض بالبلاد التي لا تزال تخوض غمار أشرس حرب اقتصاديّة ومالية ونقديّة واجتماعيّة.

وفي يوم سلامة الأخير وبعد مدّ وجذر دام لأكثر من أسبوعين، أعلن النائب الأوّل لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري، استمرار عمله داخل “المركزي” وتسلّمه مهام الحاكميّة بالانابة بعد إنتهاء ولاية الحاكم الحالي اعتباراً من اليوم الثلاثاء. ودعا منصوري خلال مؤتمر صحافي عقده ظهر أمس في المصرف المركزي، إلى وضع قانون للسيطرة على رؤوس الأموال وقانون لإعادة هيكلة مالية وميزانيّة الـ2023 خلال مدّة 6 أشهر، بالاضافة إلى تحرير سعر صرف الدولار على اعتبار أنّ هذه الخطوة هي فرصة لبنان الأخيرة لتفعيل إجراءات الاصلاح. كما لفت إلى عزم مصرف لبنان على بدء حوار مع الحكومة من أجل توحيد سعر الصرف، مُشدّداً على ضرورة الانتقال إلى سياسة جديدة وهي وقف تمويل الدولة بالكامل. وأكد عدم توقيعه أي صرف للتمويل خارج قناعاته أو خارج القانون، معتبراً أنّ وقف التمويل الفوري للحكومة لا يتم بصورة مفاجئة، وليكن الصرف بتعاون متكامل بين البرلمان والحكومة والمصرف المركزي، وذلك بموجب قانون صادر عن المجلس وخاضع لرقابته. منصوري شدد على استقلاليّة مصرف لبنان، مع اقتناعه بعدم امكان تغيير السياسات الموجودة، معوّلاً على فترة انتقالية قصيرة يُسمح من خلالها بتمويل الدولة بموجب قانون على أن تبقى رواتب موظفي القطاع العام تُدفع وفق منصّة “صيرفة”، والتي سوف يتمّ تطويرها تدريجيّاً. وأصرّ على ضرورة رفع السريّة المصرفيّة عن ملفات الدعم لتحقيق الشفافية الكاملة، رافضاً أي دراسة تبرّر المساس بالتوظيفات الالزاميّة.

إذاً وعملاً بقانون النقد والتسليف، قبل وسيم منصوري تسلم منصب حاكميّة مصرف لبنان إلى حين الاتفاق على تعيين حاكم جديد، ليضع نفسه أمام الامتحان الأصعب وفي موقف لا يُحسد عليه، مُعتذراً من عدم قدرة “المركزي” على تغيير الواقع الحالي بمُفرده، ومتمنّياً حصول توافق على إخراج كل ما يتعلّق بالسياسة النقديّة من أي تجاذب سياسي. فالمهام المُوكلة إليه ليست سهلة على الاطلاق وهي تحتاج إلى باعٍ طويل من الصبر والحنكة والحكمة في إدارة الملفّات المالية والنقدية الشائكة، وفي تحديد بوصلة السير في المتاهة السياسية القائمة وفي كيفيّة التعامل مع اللبنانيين الغاضبين الذين يُحمّلون المصرف المركزي والحاكم السابق إلى جانب السياسيين، مسؤوليّة الانهيار المالي الذي أدّى إلى تدهور قيمة عُملتهم الوطنية وتجميد ودائعهم المصرفية والقضاء على مدخراتهم وسقوط معظمهم تحت خط الفقر نتيجة تراجع قدرة رواتبهم الشرائيّة.

منصوري وبعد سنوات من الفساد والهدر وسوء الادارة وتبذير الأموال، يتسلم اقتصاداً مدمّراً ومصرفاً مركزيّاً هشاً يتطلّب منه التركيز على وضع السياسات النقدية المُلائمة والعمل على ضبط إيقاع النظام المالي المُنهار وإعادة التوازن إلى السلطة النقديّة وحماية أصحاب الودائع وإعادة هيكلة القطاع المصرفي الغارق في خسائر فادحة والفاقد ثقة المودعين اللبنانيين والأجانب، بالإضافة إلى المحافظة على الاستقرار في سعر الصرف ولجم تفلّت الدولار وعدم استخدامه كورقة سياسية ضاغطة بانتظار توحيد سعر الصرف وتحديد مصير منصّة “صيرفة” المُبهم. كما يتوجّب على الحاكم وقف التمويل العشوائي للموازنة والبدء بتنفيذ حزمة من الاصلاحات المؤسسية والماليّة الضرورية تماشياً مع خطة صندوق النقد الدولي كشرط أساس للحصول على أي دعم مالي.

رسميّاً، انتهى حكم رياض سلامة، واليوم تبدأ مرحلة جديدة بقيادة الحاكم بالانابة وسيم منصوري، مرحلة يُحيط بها الكثير من الغموض حول المسار النقدي الذي سوف يتّبعه وماهيّة التدابير والآليّات التي سيتّخذها من أجل إدارة الانهيار والحد من تفاقم الأزمات الاقتصادية والماليّة. فهل سيتمكّن الحاكم من إعتماد سياسات نقديّة غير تقليدية تُنقذ اقتصاد لبنان من نكساته وتُعيد إحياء دور “المركزي” في إرساء الاستقرار المالي؟ وهل سينجح في رسم صورة الحاكم الذي يتمتّع بوافر من الاستقلالية والمسؤولية والشفافية والنزاهة؟ وهل سيربح المعركة القادمة ويعبُر بسفينة الحاكميّة إلى برّ الأمان، أم أنّ السفينة سوف ترتطم مُجدّداً بدهاليز اللعبة السياسية العقيمة وتُغرق كلّ من فيها؟

شارك المقال