الحاكم بالإنابة يخلط الأوراق ويتسلّح بالتشريع وكشف المستور

سوليكا علاء الدين

بعد مرور ما يُقارب الشهر على قيادته دفّة مصرف لبنان، يُتابع الحاكم بالإنابة وسيم منصوري السير في سياسة المُصارحة والشفافيّة وكشف الأرقام التي يعتمدها منذ بداية فترة حُكمه. ففي 17 آب، أصدر منصوري بياناً تفصيليّاً كشف فيه عن الموجودات الخارجيّة السائلة لـ “المركزي” بالاضافة إلى أرقام المطلوبات الخارجيّة، مشدّداً على موقفه الصارم بعدم المس اطلاقاً بما تبقّى من احتياطي بالعملات الاجنبيّة من أجل تمويل الدولة.

واستكمالاً للسياسة المُتّبعة، أصدر المكتب الاعلامي لمصرف لبنان يوم الخميس، بياناً مهمّاً نشر فيه خلاصة ما جاء في تقرير التدقيق العالمي بمخزون الذهب لديه، والذي أظهر أنّ المخزون الموجود في خزائن المصرف المركزي مطابق للكميات الموثّقة في بيانات المالية. وأشار “المركزي” إلى حصوله بتاريخ 24 آب على الموافقة بنشر خلاصة التقرير وذلك بناءً على تواصل الحاكم بالإنابة، مع شركة التدقيق العالميةALS Inspection UK Ltd التي كلفتها سنة 2022 شركة KPMG بالاشتراك مع صندوق النقد الدولي القيام بتفقّد موجودات الذهب في خزنة مصرف لبنان والتحقق من نوعيتها وتسجيلها رقمياً بصورة مُستقلة، حسب المدير العالمي للمعادن الثمينة لدى الشركة ديفيد بونال.

البيان لفت إلى أنّه بعد معاينة أكثر من 13 ألف سبيكة و600 ألف عملة ذهبية، أكّدت شركة ALS Inspection UK Ltd أنّ مخزون الذهب المُحتسَب على أساس أونصة تروي مطابق لقيود مصرف لبنان وتصريحاته الرسمية عن موجودات الذهب، مع الاشارة إلى أنّ العديد من السبائك والعملات الذهبية الموجودة لدى “المركزي” بات نادراً بعد أن توقف إنتاجه في الشركات العالمية. وقامت الشركة بختم خزنة مصرف لبنان التي تحتوي على مخزون الذهب، على أن تعود سنوياً للمراجعة والتدقيق، وذلك بعد إعداد “كتالوغ” رقمي للمخزون يتّسم بالشفافية وبسهولة وفاعلية التدقيق فيه خلال السنوات المقبلة. ويقع لبنان في المرتبة الـ20 عالمياً في احتياطي الذهب وفق تصنيفات مجلس الذهب العالمي، كما يحتلّ المرتبة الثالثة عربيّاً بعد المملكة العربيّة السعودية بكميّة تبلغ حوالي 287 طناً، أي نحو 10 ملايين أونصة تقدر قيمتها بـ18 مليار دولار بحيث يُمنع التصرّف بهذه الذخيرة المُتبقية سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلّا بقرار تشريعي صادر عن المجلس النيابي اللبناني.

ومن أجل اطلاع الرأي العام على حصيلة المستجدّات خلال شهر تسلّمه سدّة الحاكمية وخصوصاً إزاء تأمين الرواتب للقطاع العام والاصلاحات المطلوب تنفيذها من الدولة، عقد منصوري قبل ظهر أمس مؤتمراً صحافيّاً، أكّد فيه إتمام دفع رواتب القطاع العام بالدولار الاميركي وفق سعر صرف 85,500 ليرة، مُشيراً إلى عدم إمكان المصرف المركزي الحفاظ على الاستقرار النقدي من دون تعاون مع المجلس النيابي والحكومة. كما أوضح أنّه تمّ التوافق على تأمين حاجات الجيش والقوى الأمنية من دون المساس باحتياطات مصرف لبنان وبالعملات الأجنبية، لافتاً إلى عدم القيام بطباعة الليرة اللبنانية لتغطية أي عجز وأنّ الانتظام المالي للدولة لا يتحقق من دون إقرار الإصلاحات. وتساءل عن المُستفيد من تأخير إقرارها مع تأكيده استعداد “المركزي” لإنجاز القوانين الاصلاحية المطلوبة كافة.

وفي ما يتعلّق بتقرير “ألفاريز أند مارسال”، أعلن منصوري أنّ المصرف المركزي سيقوم بإتمام كل اجراءات التدقيق الذي بدأ يُستكمل لجهة تزويد الشركة والقضاء بكل المستندات المطلوبة. وطالب القوى السياسية بإخراج السلطة النقدية من كل تجاذب سياسي، معتبراً أنّ حال المراوحة تؤدّي إلى تنامي الاقتصاد النقدي ما يؤثر سلباً على الاقتصاد ويساهم في عزل لبنان دولياً.

ومن ضمن سلسلة القرارات التي كان منصوري قد اتخذها خلال هذا الشهر أيضاً، إصدار قرار بتجميد جميع الحسابات العائدة بصورة مباشرة أو غير مباشرة لكل من الحاكم الأسبق رياض سلامة، وشقيقه رجا سلامة، ونجله ندي سلامة ومساعدته ماريان الحويّك، وصديقته آنا كوزاكوفا وذلك بصورة نهائية لدى المصارف الماليّة العاملة في لبنان كافة ورفع السريّة المصرفيّة عنها تجاه المراجع القضائيّة المُختصّة، من دون أن يشمل هذا القرار حسابات توطين الراتب وذلك عقب فرض كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكندا عقوبات اقتصادية بتهم فساد مالي على رياض سلامة.

يُدرك الحاكم بالإنابة عبء المهام الموكلة إليه وصعوبة المرحلة التي يمرّ بها مصرف لبنان، لا سيّما مع تفاقم الأزمة على اختلاف تشعّباتها وفشل الأطراف السياسيّة في الإتفاق على ملء فراغ الرئاسة الأولى وبالتالي عدم القدرة على تعيين حاكم أصيل لـ “المركزي” في الوقت الراهن. وأمام هذه التحديات الجمّة ومن أجل التخفيف من هول رمي كامل المسؤوليات على عاتقه، يُحاول منصوري عدم تجرّع كأس العلقم بمُفرده ويسعى إلى تفادي الوقوع في المأزق نفسه الذي تورّط فيه سلفه رياض سلامة عبر اعتماده نهج مُصارحة الرأي العام بدقّة الأرقام والبيانات ومُشاركته حقيقة ما يجري داخل أروقة المصرف. فالحاكم لا يُريد الفشل كما أنّ غلطة الشاطر بألف، لذا فهو يحرص على عدم تلويث ولايته بأي هفوة أو زلّة مُحتملة ويدرس جميع خطواته بحكمة وتأنٍ ويصرّ على تأمين الحماية والغطاء الشرعي لكل قراراته.

وعلى الرغم من الامتيازات القويّة والصلاحيات الواسعة التي يتمتّع بها، إلّا أنّ فترة حكم منصوري لن تكون سهلة، فالطريق أمامه مُعبّدة بالمشقّات ومليئة بالأفخاخ والألغام التي قد تُعرّضه في أي وقت للتعثّر والوقوع في المحظور. فهل يُكتب لمنصوري – الحاكم الذي يتسلّح بالتشريع وكشف المستور – النجاح في مهمّته الشائكة وقلب موازين القوى وفرض شروط السلطة النقدية على السلطة السياسية؟ الجواب يبقى رهن مُستجدات الأيام والأشهر المقبلة.

شارك المقال