لبنان يهدر فرص النجاة… 20 عاماً من اللامبالاة

سوليكا علاء الدين

يشهد الاقتصاد اللبناني منذ خريف العام 2019 أزمة متعدّدة الأبعاد عكست بوضوح تصدّع النظام وضعف قدرته على مواجهة التحديات والنكسات التي تعصف به. فالانهيار المُزري الذي كبّد الاقتصاد خسائر فادحة أعاد تسليط الضوء مُجدّداً على ضرورة القيام بسلسلة واسعة من الاصلاحات المطلوبة من أجل تصحيح مكامن الخلل وإعادة إنعاش القطاعات الاقتصادية لإنقاذ لبنان وإخراجه من أزمته.

لا شكّ في أنّ البرامج الاصلاحية ليست وليدة اليوم، فعلى مدى سنوات طويلة تعالت الأصوات والدّعوات المُتكرّرة الى أهميّة تنفيذ الاصلاحات الاقتصادية والهيكلية من أجل الحصول على الدعم المالي والاقتصادي المنشود لا سيّما عبر المؤتمرات الدوليّة بدءاً من “باريس 1” عام 2001 وصولاً إلى مؤتمر “سيدر” عام 2018، إلا أنّ العديد من الوعود الاصلاحيّة السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والمؤسساتية التي تعهّد لبنان بتطبيقها لم تُبصر النور حتى الساعة وبقيت مجرّد حبر على ورق.

اليوم، وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على أسوأ انهيار اقتصادي لا تزال الطبقة السياسية الحاكمة المُتهمة بتدبير الكساد الاقتصادي للبلاد، تتهرّب من الشروع في تطبيق الاصلاحات الصارمة التي باتت مطلباً مُلحّاً وضروريّاً أكثر من أي وقت مضى. فالمُماطلة والتأخير في تنفيذ هذه الاصلاحات أدخلا لبنان في دوامة أزمات لا نهاية لها، كما أنّ التخبّط السياسي وسوء الادارة وتفشّي الفساد والرشوة والهدر أدّت جميعها إلى مزيد من التدهور في الوضع الاقتصادي، الأمر الذي يدعو إلى تدخّل إصلاحي فوريّ من أجل وقف نزيف الاقتصاد.

استفحال الأزمة الاقتصاديّة أدّى في 7 نيسان 2022 وبعد جولات من التفاوض الرسميّة، إلى إبرام لبنان إتفاقاً مبدئياً مع صندوق النقد الدولي بهدف الحصول على مساعدات ماليّة بقيمة ثلاثة مليارات دولار على مدى أربع سنوات، بالاضافة إلى رزم تمويل إضافيّة بقيمة عشرة مليارات دولار من مصادر دوليّة متعدّدة، شرط الالتزام بتنفيذ برنامج الاصلاح الاقتصادي الشامل. ولكن منذ ذلك الحين، لم يُحرز أي تقدّم ملحوظ على صعيد الاصلاحات وأبرزها إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعديل قانون السريّة المصرفيّة و”الكابيتال كونترول” وتوحيد سعر الصرف. وكان البنك الدولي أشار في وقت سابق إلى أنّ لبنان، وعلى الرغم من التحذيرات المبكرة، أضاع وقتاً ثميناً، والعديد من الفرص لتبنِّي مسار لإصلاح نظامه الاقتصادي والمالي، بحيث كانت تكاليف التقاعس والتلكؤ هائلة، ليس على حياة المواطنين اليوميّة وحسب، وإنما على مستقبل الشعب اللبناني أيضاً. كما لفت إلى أنّ استمرار التأخير المتعمّد في معالجة أسباب الأزمة لا يهدّد المستوى الاجتماعي والاقتصادي فحسب، بل ينطوي على خطر إخفاق منهجي لمؤسسات الدولة ويُعرّض السلم الاجتماعي الهش الى مزيد من الضغوط.

إذاً، المٌجتمع الدولي يُعلنها صراحة لا أموال من دون إصلاحات ملموسة. والقرار الخارجي هذا يلاقيه أيضاً قرار داخلي حاسم يتمثّل في توجّه حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري الذي دقّ ناقوس الخطر محذّراً من أنّ المراوحة الحالية والتأخير في إقرار القوانين الاصلاحية يؤديان إلى تنامي الاقتصاد النقدي ما يؤثر سلباً على الاستقرار الاقتصادي السليم والمستدام ويعرّض لبنان لمخاطر عزله عن النظام المالي الدولي، ولهذا أثر سلبي كبير على الاقتصاد وحياة المواطن ومستقبل القطاع المصرفي.

مع الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يتخبّط به لبنان، يستمر الاصرار على عدم تنفيذ الاصلاحات وذلك على الرغم من تدهور العملة الوطنية وخسارتها نحو 98 في المئة من قيمتها، وانكماش الناتج المحلي الاجمالي 40 في المئة وارتفاع معدّلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة قاربت الـ251.5 في المئة على أساس سنوي واستنزاف أكثر من ثلثي احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية إلى نحو 8.5 مليارات دولار. فغياب الارادة والجديّة السياسية وانعدام نهج الاصلاح الاقتصادي ومقاومة تنفيذ البرامج الاصلاحيّة وعدم اتفاق القوى السياسية وإعلاء مصالحها الخاصة تزيد من شدّة الأعباء الاقتصادية المُلقاة على اللبنانيين، وتقوّض أي فرصة للوصول إلى اتفاق مع الجهات المانحة من أجل إعادة اكتساب الثقة وإنقاذ لبنان من انهياره المُتعمّد لا سيّما مع استمرار الفراغ الرئاسي وانعكاس هذا الشغور القاتل على الأزمة الاقتصاديّة المُنهكة والمُكلفة للبلاد. فلبنان بحاجة اليوم إلى برنامج اصلاح اقتصادي شامل من أجل وقف عجلة التدهور المُتفاقمة وإفساح المجال أمام مسار التعافي والنهوض الذي لا يزال مفقوداً.

شارك المقال