صندوق النقد ضاق ذرعاً… ولبنان إلى نقطة اللاإتفاق

سوليكا علاء الدين

بعد إجرائها سلسلة من اللقاءات مع المسؤولين اللبنانيين، أنهت بعثة صندوق النقد الدولي زيارتها إلى لبنان عقب إجراء مراجعة للإتفاق الأوّلي الموقّع بين الحكومة والصندوق في نيسان 2022 ومراقبة مسار تنفيذ الاصلاحات الاقتصادية والمالية الرئيسة. رئيس البعثة إرنستو راميريز ريغو، أصدر في ختام جولته الاستطلاعيّة بياناً أشار فيه إلى أنّ لبنان لم يقم بالاصلاحات المطلوبة بصورة عاجلة، ما سيؤثّر على الاقتصاد لسنوات قادمة. وعزا ذلك إلى الافتقار الى الارادة السياسية الذي يترك البلاد في مواجهة قطاع مصرفي ضعيف، وخدمات عامة غير كافية، وتدهور البنية التحتية، وتفاقم ظروف الفقر والبطالة، واتساع فجوة الدخل. فعلى الرغم من زيادة تدفقات العملات الأجنبية خلال أشهر الصيف نتيجة الارتفاع الموسمي في السياحة، إلّا أنّ ايرادات السياحة والتحويلات المالية هي أقل بكثير من المطلوب لتعويض العجز التجاري الكبير ونقص التمويل الخارجي.

ريغو الذي أثار تساؤلات عما إذا كان حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري سيصمد أمام الضغوط السياسية في المرحلة المقبلة لتلبية طلبات الحكومة بالتسديد بالدولار، أشاد بالقرارات الأخيرة التي اتّخذتها القيادة الجديدة لمصرف لبنان مُعتبراً إيّاها خطوات في الاتجاه الصحيح، لا سيّما تلك المُتعلّقة بالتخلّص التدريجي من منصة “صيرفة”، وإنشاء منصة تداول العملات الأجنبية ذات السمعة الطيبة والشفافة، وإنهاء السحب من احتياطيات العملات الأجنبية، والحد من التمويل النقدي، وتعزيز الشفافية المالية. كما أكّد ضرورة توحيد جميع أسعار الصرف الرسمية وفقاً لسعر صرف السوق نظراً إلى مساعدتها في القضاء على فرص التحكم في الأسعار والربح التي تُثقل عبء المالية العامة. وفي مقابل ذلك، لفت إلى وجوب دعم هذه الخطوات مؤقتاً من خلال قانون قيود رأس المال والسحب، واستكمالها باجراءات سياسية من الحكومة والبرلمان للحد من العجز ومعالجة القطاع المالي من خلال الاعتراف بالخسائر والمضي قدماً في إعادة هيكلة المصارف. كما أعلن أنّ الحكومة بحاجة إلى تنفيذ استراتيجية مالية متماسكة لاستعادة القدرة على تحمّل الديون وإفساح المجال للإنفاق الاجتماعي والإنفاق على البنية التحتية.

وعلى صعيد الموازنة العامة، قال رئيس البعثة إنّ موازنة 2023 لا تزال تفتقر إلى التوقيت والتغطية، كما أنّها لا تعكس بدقّة المدى الحقيقي للعجز والتمويل النقدي المرتبط بها. ولفت إلى أنّ موازنة 2024 المُقترحة يجب أن تكون متناسقة مع عملية توحيد سعر الصرف، التي بدأها مصرف لبنان، وتُجنّب المعاملة التفضيلية لبعض دافعي الضرائب على حساب غيرهم، على أن تتضمّن موارد كافية لاعادة بناء الادارة الضريبية لتعزيز الامتثال وتحسين العدالة الضريبية. وفي هذا الصدد، يُشجّع صندوق النقد السلطات على البدء بتنفيذ العناصر الرئيسة لتوصيات إصلاح السياسة الضريبية للصندوق، المنشورة في تقرير المساعدة الفنية لعام 2023 بشأن إعادة السياسة الضريبية إلى المسار الصحيح، والبدء بخطط إعادة تأهيل الشركات الكبرى.

وخلُص البيان الختامي إلى أنّ خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي لا تزال غير موضوعة، بحيث أدّى هذا التقاعس إلى انخفاض كبير في الودائع القابلة للاسترداد وعرقلة توفير الائتمان للاقتصاد. كما أنّ التعديلات على قانون السرية المصرفية، والتي تهدف إلى معالجة أوجه القصور، ومشروع قانون مراقبة رأس المال وسحب الودائع، لا تزال في انتظار موافقة البرلمان.

منذ تاريخ إبرام الإتفاق في نيسان 2020 بين الحكومة اللبنانيّة وصندوق النقد الدولي، لم يتوانَ الصندوق عن إطلاق الصفارات التحذيريّة موجّهاً أصابع الإتهام إلى الطبقة السياسية ومُحمّلاً إيّاها مسؤولية الإهمال والتكاسل في تنفيذ البرامج الاصلاحية المطلوبة وتداعيات غيابها الخطيرة على الوضع الاقتصادي المهترئ. فالاتفاق لم يشهد حتى اليوم أي تقدّم ملحوظ في سبيل التوصل إلى خطّة التعافي الاقتصادي وبقيت شروط الصندوق في مهبّ الأخذ والرد، بحيث شكّلت “قضيّة الودائع” العقبة الأبرز في وجه هذا الاتفاق. الاصطدام الحاصل جاء نتيجة التضارب في وجهات النظر، فالحكومة من خلال خطّتها تسعى إلى تحويل معظم الودائع إلى “صندوق استرداد الودائع”، على أن يتمّ إعادتها من ايرادات أصول الدولة الفائضة في حال تحقيقها وبالتالي تحمّل الدولة جزءاً من الخسائر. من جهته، يعتبر الصندوق أنّ شطب الودائع أو حصول “هيركات” على الودائع الكبيرة التي تتجاوز الـ 100 ألف دولار هو الخيار الأسهل والأسرع، ويرفض طرح إنشاء الصندوق المذكور واستخدام أصول الدولة أو الدخول في عمليّة خصخصة للأصول العامة من أجل تغطية خسائر القطاع المصرفي الذي يُطالب بإعادة هيكلته وإصلاحه، فالدولة المُتعثّرة اليوم لن تكون قادرةً على الايفاء بالتزاماتها وتعهّداتها. وكان قد نُقل عن ريغو قوله بأنّ بعض من تمّ اللقاء بهم يفكّرون في الانتخابات النيابية المقبلة، إذ هم يعلمون أن معظم الودائع لم يعد موجوداً، وأن أيّ التزامات تجاه المودعين تضرب إمكان إعادة تسديد القروض التي سيحصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي ومن تسديد قروض الدول المانحة الأخرى.

من الواضح أنّ معايير إعادة هيكلة القطاع المصرفي، تختلف بين الطرفين إذ لا تزال الطروح المُقدّمة من الجانب اللبناني غير ملائمة مع رؤية صندوق النقد، الأمر الذي نسف الاتفاق وأعاده إلى نقطة الصفر. فبحسب رافعي شعار “قدسية الودائع والدفاع عن حقوق المودعين”، إنّ الخطط التي قدمها الصندوق تأتي على حساب المودعين وبالتالي فإنّ الأطراف السياسية والبرلمان ومعهم المصارف لن يقبلوا بشطب الودائع ويربّحوا المودعين “جميلة” بأنّ انهيار الاتفاق هو من أجل الحفاظ على مصلحتهم. المطلوب بالتأكيد هو إعادة جدولة الودائع وليس شطبها والعمل على حماية المودعين وليس تحميلهم النسبة الأكبر من الخسائر، لكن أين كان هؤلاء منذ بداية الأزمة؟ ومن أوصل المودعين إلى خسارة جنى أعمارهم؟ وطالما أنّ مطالب الصندوق صعبة المنال وغير قابلة للتنفيذ، فلماذا التفنّن في اللف والدوران ومضيعة الوقت؟ وأين هي خطتهم البديلة لإنصاف المودعين ومشاريعهم الاصلاحية لإنقاذ لبنان؟

سنوات وأشهر وأيام من اللاجديّة واللامبالاة واللانيّة في تنفيذ الاصلاحات، أدخلت لبنان في دهاليز مُظلمة وكلّفته أثماناً اقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية باهظة حتى بلغ الصندوق حدّ اليأس والاحباط وضاق ذرعاً بالمعنيين اللبنانيين الذين لا يملّون من رمي التهم وتقاذف المسؤوليّات في ما بينهم. اليوم يمكن القول بأنّ الإتفاق مع الصندوق بات شبه مُستحيل بعد وصوله إلى حائط مسدود ليخسر لبنان بذلك فرصته في استعادة الثقة الدولية والحصول على المساعدات المالية المنشودة، فهل سيستطيع لبنان الذي أغرقه حكّامه في متاهة الانهيار وجعلوه عاجزاً عن إدارة أزماته وتدبير أموره بنفسه تحمّل انعكاسات فشل الإتفاق وتردداته؟

شارك المقال