صراع الشرق الأوسط يُنذر بفوضى اقتصادية عارمة

سوليكا علاء الدين

أدى استمرار النزاع في غزة وتصاعد الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية إلى قيام صندوق النقد الدولي بتخفيض توقعاته للنمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العام 2024 إلى 2.9 في المئة، أي بانخفاض قدره 0.5 نقطة مئوية عن توقعاته السابقة في تشرين الأول 2023. ويعود هذا الانخفاض إلى عدد من العوامل الرئيسة التي تشمل: التأثير السلبي للصراع في غزة، والتخفيضات الطوعية الاضافية في إنتاج النفط، واستمرار تنفيذ السياسات الصارمة الضرورية في العديد من الاقتصادات. وبافتراض تراجع حدّة الصراع في الربع الأول من العام 2024 وتلاشي تأثير هذه العوامل تدريجياً، بالاضافة إلى استمرار النمو القوي غير النفطي لدعم النشاط في الدول المصدرة للنفط، توقع التقرير أن يرتفع معدل النمو في المنطقة إلى 4.2 في المئة في العام 2025.

تحت عنوان “الشرق الأوسط وشمال افريقيا: الصراعات تُعقّد التحديات الاقتصادية”، أشار التقرير إلى أنّ الصراع في غزة وإسرائيل شكّل صدمة أخرى لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا سيما للاقتصادات التي تواجه تحديات قائمة وزيادة في عدم اليقين. ووفقاً للتقرير، من المتوقع أن يتفاقم التباطؤ الاقتصادي في المنطقة، بسبب تراجع آفاق النمو، الذي يعود في المقام الأول إلى الصراع الدائر في السودان، بالاضافة إلى الكوارث الطبيعية، مثل الفيضانات في ليبيا والزلزال في المغرب، وآثارها البشرية والمادية المدمرة. وذكر التقرير أن الآفاق المستقبلية للمنطقة غير مؤكدة إلى حد كبير، وأن مخاطر التطورات السلبية تعود إلى الظهور من جديد. ففي حالة تصعيد الصراع أو انتشاره إلى ما هو أبعد من غزة وإسرائيل، أو تكثيف الاضطرابات في البحر الأحمر، يمكن أن يكون لذلك تأثير اقتصادي شديد، بما في ذلك على التجارة والسياحة.

السياحة في أزمة

وأشار صندوق النقد الدولي في تقريره إلى أنّ الصراع في غزة وإسرائيل أدّى إلى تفاقم الأزمة السياحية في الاقتصادات المجاورة، بحيث تراجعت معدلات إشغال الغرف الفندقية بصورة حادة، لا سيما في لبنان والأردن، مقارنة بالفترة المقابلة من العام السابق. وتعد السياحة شريان حياة للعديد من اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تمثل ما بين 2 إلى 20 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي وما بين 5 إلى 50 في المئة من صادرات السلع والخدمات. ونظراً الى دورها المهم في هذه الاقتصادات، فإن تأثرها بالصراع سيؤدي إلى كبح جماح النمو الاقتصادي.

صراع يُهدد التجارة

وبحسب التقرير، أثار الوضع الأمني المتصاعد في البحر الأحمر مخاوف بشأن تأثير الصراع على تكاليف التجارة والشحن. إذ أعلنت العديد من شركات الشحن الكبرى أنها تقوم بتحويل البضائع عبر طرق شحن بديلة، ما قد يؤدي إلى آثار محتملة على سلاسل التوريد العالمية وتجارة السلع. وخلال النصف الأول من العام 2023، مثلت التجارة التي تمر عبر قناة السويس حوالي 12 في المئة من التجارة العالمية، بما في ذلك 30 في المئة من حركة الحاويات العالمية، و10 إلى 15 في المئة من حركة الحاويات العالمية المنقولة بحراً، و8 في المئة من شحنات الغاز الطبيعي المسال العالمية. ومع ذلك، اعتباراً من 21 كانون الثاني 2024، انخفض حجم الشحن التراكمي لمدة 10 أيام عبر قناة السويس بنسبة 50 في المئة تقريباً مقارنة بالعام السابق. كما ارتفعت تكاليف الشحن للطرق بين أوروبا – البحر الأبيض المتوسط والصين بأكثر من 400 في المئة منذ منتصف تشرين الثاني 2023، وهو ما يعكس على الأرجح مزيجاً من زيادة تكاليف التأمين وسط ارتفاع المخاطر الأمنية، وارتفاع تكاليف النقل المرتبطة بطرق الشحن الأطول.

تحديات التضخم

يمثل الانخفاض الإقليمي الواسع النطاق في معدل التضخم تطوراً إيجابياً، بحيث يعكس جهود السياسة النقدية لمعالجة ارتفاع الأسعار. وقد انخفض التضخم بصورة مطردة في معظم اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بما في ذلك الدول المصدرة للنفط، حيث اقتربت معدلات التضخم الأساسية من المتوسطات التاريخية. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال التضخم مستمراً في بعض الاقتصادات، نتيجة عوامل خاصة بكل بلد، مثل نقص النقد الأجنبي في مصر والتمويل النقدي وضغوط زيادة التكلفة في السودان. وفي لبنان، لا يزال التضخم مرتفعاً على الرغم من بدء اعتدال الضغوط التضخمية منذ منتصف العام 2023، مدعومة بنهاية التمويل النقدي، ما فرض ميزانية متوازنة وسعر صرف مستقراً.

زخم النمو غير النفطي

التقرير ذكر أن على الرغم من الصدمة الاقتصادية الناجمة عن الصراع، فإن اقتصادات معظم الدول المصدرة للنفط تظل قوية، بحيث يستمر زخم النمو غير النفطي في الارتفاع. ويرجع ذلك إلى الاصلاحات الهيكلية التي تنفذها الدول الخليجية، والتي تلعب دوراً محورياً في التنويع الاقتصادي، بالاضافة إلى زيادة الطلب المحلي وتدفقات رأس المال. ومع ذلك، فإن تخفيضات إنتاج النفط الطوعية الاضافية أدت إلى انخفاض النمو الكلي في دول الخليج إلى 0.5 في المئة في العام 2023، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 2.7 في المئة في العام 2024 مع تخفيف تأثير التخفيضات النفطية.

الاستعداد للأسوأ

تواجه اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحديات خارجية متزايدة. ومن المتوقع أن يؤدي الانخفاض المرتقب في إيرادات السياحة والتجارة إلى انخفاض في أرصدة الحساب الجاري. كما ستؤدي تخفيضات إنتاج النفط من أعضاء مجلس التعاون الخليجي إلى تفاقم هذا الانخفاض. ووفقاً للتقرير، من المتوقع أن يتقلص إجمالي ميزان الحساب الجاري لاقتصادات المنطقة بمقدار 25 مليار دولار في العام 2024، أي ما يعادل 0.7 نقطة مئوية من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بالتوقعات الواردة في عدد تشرين الأول 2023.

وتصاعدت مخاطر الصراع في المنطقة، ما أدى إلى زيادة حالة عدم اليقين بالنسبة الى اقتصادات المنطقة بشأن مدة الصراع ونطاق التصعيد. وحتى لو بقي الصراع محصوراً في غزة وإسرائيل، فإن الوضع يظل غير مؤكد إلى حد كبير. وأشارت توقعات التقرير إلى أن تصاعد الصراع من شأنه أن يؤدي إلى تأثير سلبي على السياحة، والتي تعد مصدراً مهماً للدخل للعديد من اقتصادات المنطقة. كما يمكن أن يؤدي ارتفاع تكاليف الطاقة والاقتراض إلى إعاقة النمو. وعلى الجانب المالي، من المرجّح أن ترتفع النفقات وسط الحاجة إلى دعم الأسر الضعيفة والأسر النازحة وتعزيز الأمن، لا سيما بالنسبة الى الاقتصادات القريبة من الصراع.

وفي سيناريوهات المخاطر القصوى، وإن كانت قليلة الاحتمال، قد تلعب عوامل إضافية خاصة بكل بلد دوراً مهماً أيضاً. وتشمل هذه السيناريوهات فرض عقوبات أكثر صرامة على إيران، وإغلاق طرق الشحن الاقليمية الرئيسة للنفط والغاز (مثل مضيق هرمز)، والهجمات على البنية التحتية الرئيسة للنفط والغاز. في مثل هذه المواقف، قد تشهد أسعار النفط والغاز ارتفاعاً حاداً. ومع ذلك، فإن وجود فائض في الطاقة الانتاجية للنفط، أو استخدام احتياطيات النفط الاستراتيجية، يمكن أن يساعد في تخفيف حدة هذا الارتفاع. وفي النهاية، ستظل عوامل العرض والطلب هي المحدد الرئيسي للزيادات في الأسعار المدفوعة بالمخاطر، وفق التقرير.

دعم والتزام

وفي ختام التقرير، أكّد صندوق النقد الدولي مجدداً التزامه بدعم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث سيواصل تقديم المشورة بشأن السياسات والمساعدة الفنية والتمويل لبلدان المنطقة. وقد قدم الصندوق أكثر من 27 مليار دولار من التمويل لبلدان المنطقة منذ أوائل العام 2020، في تأكيد على التزامه بمساعدة البلدان في المنطقة على مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجهها، مُسلّطاً الضوء على دور الاصلاحات الهيكلية الحاسم لتعزيز النمو وتعزيز القدرة على الصمود على المدى القريب والبعيد.

شارك المقال