اقتصادات الشرق الأوسط تحت الضغط: تباطؤ مُتوقع وتحديات متنامية

سوليكا علاء الدين

لا تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تواجه سلسلة من التحديات الجسيمة التي تعوق قدرتها على تحقيق النمو والتعافي الاقتصادي. فقد أدّت الحرب الاسرائيلية على غزة إلى معاناة إنسانية هائلة، وتسبّبت توترات البحر الأحمر في تقييد حركة الشحن، كما ساهم خفض إنتاج النفط في تفاقم نقاط الضعف الهيكلية، مثل ارتفاع مستويات الدين وتكاليف الاقتراض الكبيرة. وانعكست هذه العوامل سلباً على نمو اقتصادات المنطقة حيث توقّع صندوق النقد الدولي أن يبقى النمو الاقتصادي في المنطقة مكبوحاً في العام 2024، مع بعض التحسن إلى 2.7 فقط، مقارنة بتوقعاته السابقة في كانون الثاني/يناير بـ2.9 في المئة. ومع ذلك، أشارت توقعات الصندوق إلى تحسن طفيف في العام 2025، إذ من المتوقع أن يرتفع النمو إلى 4.2 في المئة وسط افتراضه انحسار تأثير هذه العوامل المؤقتة تدريجياً .

أزمة مزدوجة

تحت عنوان “تعافٍ متفاوت في ظل تزايد عدم اليقين في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى”، أطلق صندوق النقد الدولي أحدث تقاريره وذلك على هامش اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن. التقرير حذّر من أنّ سيطرة عدم اليقين المتزايد تشّكل تحدياً للاقتصادات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، حيث تُلقي الأزمات بظلالها على فرص النمو الاقتصادي. كما لفت إلى أن استمرار الصراعات لا يُخلّف خسائر بشرية واجتماعية فادحة وحسب، بل يترك ندوباً اقتصادية لعقود قادمة من خلال تدمير المؤسسات والمساهمة في هشاشة الاقتصادات المتأثرة بالصراعات، فضلاً عن الضغوط المالية المتزايدة والارتفاع المطرد في معدلات التضخم التي تواجهها الدول الصاعدة والنامية. كما سلّط الصندوق الضوء على مخاطر انتقال هذه التداعيات السلبية إلى الدول المجاورة، الأمر الذي يُنذر باستمرار انخفاض معدلات النمو عن المتوسطات التاريخية قبل جائحة فيروس كورونا.

وبحسب التقرير، تتحمّل دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وطأةً اقتصاديةً أشد وأطول أمداً من جراء الصراعات مقارنةً ببقية دول العالم. ففي المتوسط، يظل نصيب الفرد من الناتج في البلدان المتأثرة بالصراعات منخفضاً بنسبة 10 في المئة حتى بعد عشر سنوات من انتهاء النزاع. في المقابل، لا يتجاوز هذا الانخفاض 3 في المئة في المتوسط في المناطق الأخرى من العالم، وغالباً ما تنجح في تعويضه خلال خمس سنوات.

ومن خلال مقارنة إضافية أيضاً بين اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والاقتصادات في مناطق أخرى خلال الفترة من 1989 إلى 2022، تشير النتائج الرئيسية للتأثيرات الاقتصادية إلى أن الصراعات تُلحق ضرراً جسيماً بالأداء الاقتصادي على المدى القصير والطويل، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض الاستهلاك والاستثمار والصادرات وإيرادات المالية العامة.

تعافٍ متباين

تناول صندوق النقد الدولي التباين في معدلات النمو بين دول المنطقة، ما يُظهر تنوعاً في مسار التعافي. فبينما يواصل بعض الدول المصدرة للنفط التزامه بالتخفيضات الطوعية الاضافية للإنتاج، يعزز في الوقت نفسه أنشطته في مجالات غير هيدروكربونية. ومن المتوقع أن يؤدي إنتاج النفط الأعلى إلى تعزيز النمو في بلدان أخرى (غير دول مجلس التعاون الخليجي). أما في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، فيُلاحظ استمرار زخم النمو على الرغم من تراجع التدفقات الحقيقية والمالية الواردة نتيجة للحرب في أوكرانيا. وفي المقابل، تُسجل الدول المستوردة للهيدروكربونات عموماً نمواً أسرع من ذلك المتحقق في الدول المصدرة لها، ويعود ذلك إلى ما لديها من طلب محلي أقوى. كما وتُشير التوقعات إلى نمو اقتصادات الأسواق الناشئة والمتوسطة الدخل بنسبة 2.8 في المئة في العام 2024، مُقارنةً بـ 2.9 في المئة في التوقعات السابقة، بينما سجل النمو 3.1 في المئة في العام 2023. ويُعزى هذا التعديل في التوقعات إلى تأثير الصراعات والسياسات النقدية المُشددة. وفي ما يتعلق بنمو البلدان منخفضة الدخل، من المتوقع أن ينكمش اقتصادها بنسبة 1.4 في المئة في العام 2024، مُقارنةً بـ -0.7 في المئة في التوقعات السابقة، بينما سجل النمو -9.6 في المئة في العام 2023. ومع ذلك، يتوقع الصندوق تحسناً في آفاق النمو في العام 2025، بحيث من المرجح أن يصل إلى 4.4 في المئة.

تجارة مهددة

علاوة على ذلك، فإنّ التغيرات في أنماط التجارة الناجمة عن الصراعات من شأنها أن تُحدث آثاراً غير مباشرة على النشاط الاقتصادي وإيرادات المالية العامة. فمنذ العام 2022، تشهد منطقة القوقاز وآسيا الوسطى ازدهاراً ملحوظاً في النشاط التجاري، بفضل تنامي تجارة العبور مع إفريقيا وإعادة توجيه مسارات التجارة العالمية. وقد واكب بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هذه التحولات بتغييرات في أنماط تجارته، خصوصاً في قطاع الطاقة. إلا أن توترات البحر الأحمر تسببت في الآونة الأخيرة، في عرقلة التجارة في العديد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ومع تطور المشهد الجغرافي-الاقتصادي وتزايد حالة عدم اليقين، تواجه دول المنطقة مفترق طرق: إما الافادة من ازدياد التدفقات التجارية أو التعرض لخسائر في التجارة والناتج الاقتصادي. وفي ظل هذه الضبابية، تتطلب إدارة المخاطر وتحقيق أقصى افادة من الفرص التجارية من البلدان خفض الحواجز التجارية، والنهوض بالبنية التحتية، وتعزيز الأطر التنظيمية. وفي الوقت نفسه، يمكن تخفيف الاضطرابات الناجمة عن التوترات في البحر الأحمر مع بناء الصلابة في مواجهة الصدمات التجارية من خلال تنويع مسارات السفن، وعلى المدى المتوسط، من خلال إيجاد ممرات تجارية بديلة وتنويع التجارة.

أمل رغم المخاطر

وبحسب التقرير، لا تقتصر المخاطر على الصراعات الاقليمية، بل تشمل أيضاً مخاطر عالمية مثل التشرذم الجغرافي-السياسي، مُحذّراً من تزايد الضغوط على المالية العامة في دول الأسواق الناشئة والمتوسطة الدخل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تُهدد مدفوعات الفائدة المرتفعة الجهود المبذولة لتعزيز استقرارها المالي. وعلى الرغم من هذه المخاطر، يظل هناك بعض الاحتمالات الإيجابية التي قد تُساهم في تجاوز التوقعات والتخفيف من حدة التحديات. ففي حال تحقيق نمو عالمي أعلى من المتوقع، سينعكس ذلك إيجاباً على التجارة في المنطقة. كما سيؤدي استئناف تخفيضات أسعار الفائدة بصورة متسارعة في الاقتصادات المتقدمة الرئيسية إلى تخفيف الضغوط على المالية العامة وتحسين ديناميكية الدين. وأشار التقرير إلى وجود دلائل على اقتراب نهاية دورات تشديد السياسة النقدية في معظم بلدان المنطقة، مع بدء التضخم في الانحسار نحو متوسطه التاريخي في العديد من اقتصادات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووصوله في ثلث الاقتصادات إلى مستوى قريب من المتوسط أو حتى دون المتوسط.

إصلاحات وفرص

من المتوقع أن يصمد النمو الاقتصادي، على الرغم من تباطؤه، مدفوعاً بمجموعة من العوامل، بما في ذلك تيسير السياسات الاقتصادية الكلية، وقوة الطلب المحلي، وزيادات إنتاج النفط. وعلى المدى المتوسط، من المرجح أن يستمر النمو في المنطقة بصورة مستقرة نسبياً بين الدول المستوردة للنفط، مدعوماً باستمرار قوة الطلب المحلي. بينما قد يشكّل تراجع إنتاج الهيدروكربونات عبئاً على النمو في الدول المصدرة للنفط.

لم يتردد التقرير في إبراز التحديات التي تواجه صنّاع السياسات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تتطلب تحقيق التوازن بين أهداف متعددة أبرزها تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي، واستدامة الدين، والتصدي للتحديات الجغرافية-السياسية، وتحسين آفاق النمو على المدى المتوسط. وحذر من مخاطر التيسير النقدي المفرط، مؤكداً ضرورة اتباع سياسة مالية عامة صارمة لخفض الدين العام، خصوصاً في الدول ذات المديونية المرتفعة، نظراً الى تفاوت مستويات الدين بين الدول.

مع ذلك، ونظراً الى تباين الظروف بين الدول، لا بد من تكييف السياسات المتبعة مع احتياجات كل بلد على حدة. وفي ظلّ تزايد حالة عدم اليقين، يصبح قيام الدول بإصلاحات لتعزيز أسسها الاقتصادية أمراً بالغ الأهمية، بما في ذلك تقوية مؤسساتها وتعزيز حوكمتها. وعلى صعيد آخر، يمكن اغتنام الفرص الناشئة عن الممرات التجارية الجديدة من خلال خفض الحواجز التجارية الراسخة، وتنويع المنتجات والأسواق، وتعزيز البنية التحتية.

شارك المقال