يشهد العالم ثورة رقمية هائلة بفضل التطورات المتسارعة في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. وقد نتج عن هذه الثورة ظهور اقتصاد رقمي يفتح الباب واسعاً أمام جذب استثمارات خارجية وفيرة، وخلق فرص عمل جديدة وتحقيق انتعاش اقتصادي، ليصبح عنصراً أساسياً لا غنى عنه لتحقيق التنافسية والنمو المستدام. ويُعد التحول الرقمي محركاً قوياً لنمو الاقتصاد العالمي، بحيث يُساهم الاقتصاد الرقمي في أكثر من 15 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي العالمي. وبحسب تقديرات البنك الدولي، من المتوقع أن يتضاعف حجم الاقتصاد الرقمي ليصل إلى 23 تريليون دولار أميركي في العام 2025، أي ما يقارب الـ 24 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي.
المعادلة الصعبة
وتلعب الاستدامة دوراً محورياً في صميم الاقتصاد الرقمي، غير أن تحقيقها يعتمد على الاستخدام الأمثل والمتوازن للتقنيات الرقمية. وبينما تساهم الرقمنة في دفع النمو الاقتصادي العالمي وتُتيح امكانات فريدة للبلدان النامية، إلا أنّ عواقبها البيئية أصبحت وخيمة بصورة متزايدة.
هذا ما أعلنته منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد” في تقريرها المُفصّل الذي جاء تحت عنوان “الاقتصاد الرقمي 2024: تشكيل مستقبل رقمي شامل ومستدام بيئياً”. التقرير سلط الضوء على التأثير البيئي الكبير للقطاع الرقمي العالمي والعبء غير المتناسب الذي تتحمله البلدان النامية، مُشيراً إلى أن هذه البلدان لا تزال تتأثر بصورة غير متساوية اقتصادياً وبيئياً بسبب الفجوات الرقمية والتنموية القائمة. ومع ذلك، تقدم هذه البلدان فرصاً كبيرة للافادة من التحول الرقمي لتحقيق التنمية المستدامة.
المنظمة حذّرت من مخاطر إهمال التكاليف البيئية المترتبة عن الرقمنة، داعية إلى التصدي الفوري لهذه المخاطر واتخاذ إجراءات عاجلة للحد منها. وتشمل المخاوف الرئيسية استنزاف الموارد الخام المحدودة، خصوصاً تلك اللازمة للتقنيات الرقمية ومنخفضة الكربون، وتزايد استهلاك المياه والطاقة، وارتفاع معدلات النفايات الالكترونية. وفي ظل تسارع وتيرة التحول الرقمي بصورة غير مسبوقة، بات فهم علاقته بالاستدامة البيئية أمراً بالغ الأهمية أكثر من أي وقت مضى.
تحول غير عادل
تلعب البلدان النامية دوراً رئيسياً في سلسلة التوريد العالمية للمعادن والفلزات الانتقالية، بحيث تتركز هذه المواد بصورة كبيرة في عدد قليل من المناطق. وتتمتع إفريقيا على وجه الخصوص بوجود رواسب معدنية ضخمة ضرورية للتحول العالمي إلى تقنيات منخفضة الكربون والرقمية، بما في ذلك الكوبالت والنحاس والليثيوم، والتي تشكل عناصر أساسية لمستقبل الطاقة المستدامة. وتُعدّ القارة السمراء غنية باحتياطيات هائلة من هذه المواد، حيث تمتلك 55 في المئة من احتياطيات الكوبالت العالمية، و47.65 في المئة من المنغنيز، و21.6 في المئة من الجرافيت الطبيعي، و5.9 في المئة من النحاس، و5.6 في المئة من النيكل، و1 في المئة من الليثيوم.
وبحسب البنك الدولي، فإن الطلب على المعادن الحيوية للتحول الرقمي، مثل الجرافيت والليثيوم والكوبالت، قد يرتفع بنسبة هائلة تصل إلى 500 في المئة بحلول العام 2050. ويمثل هذا الارتفاع المتسارع فرصة تنموية هائلة للدول النامية الغنية بالموارد المعدنية، في حال تمكّنها من إضافة قيمة إلى تلك المعادن المُستخرجة، والافادة من عائدات التعدين بصورة فاعلة، وتنويعها عبر سلسلة القيمة والقطاعات الاقتصادية الأخرى.
وتواجه الدول النامية تحديات جمة تتمثل في الأزمات العالمية، والحيز المالي المحدود، والنمو البطيء، والديون المرتفعة. ومع ذلك، تُقدم فرصة الطلب المتزايد على المعادن للتحول الرقمي إمكاناً هائلاً لتحقيق التنمية المستدامة من خلال الاستثمار في معالجة هذه المعادن وتصنيعها محلياً. وسيساعدها ذلك على تأمين حصة أكبر من الاقتصاد الرقمي العالمي، وسيُتيح لها توسيع نطاق مشاركتها في الاقتصاد الرقمي العالمي، وجمع المزيد من الايرادات الحكومية، وتمويل التنمية، والتغلب على الاعتماد على السلع الأساسية، وخلق فرص العمل، ورفع مستويات المعيشة.
ويدفع الطلب العالمي المتزايد على السلع الأساسية للطاقة النظيفة إلى تعزيز الاستثمار المباشر الأجنبي في أميركا اللاتينية، حيث شكل 23 في المئة من قيمة المشاريع الجديدة في المنطقة خلال العامين الماضيين.
الثمن البيئي
يُلقي قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بعبئه على البيئة بصورة كبيرة، بحيث تُخلّف دورة حياة الأجهزة والبنية التحتية الرقمية آثاراً بيئية عميقة. وتشمل هذه الدورة المراحل كافة بدءاً من استخراج المواد الخام ومعالجتها، مروراً بالتصنيع والتوزيع، وصولاً إلى الاستخدام والتخلص من النفايات. وتتطلب هذه العمليات كميات هائلة من المعادن الانتقالية والطاقة والمياه، ما يُساهم بطريقة كبيرة في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والتلوث.
ففي العام 2020، تراوحت تقديرات انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بين 0.69 و1.6 جيجا طن، أي ما يعادل 1.5 إلى 3.2 في المئة من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية. ويُتوقع أن يرتفع هذا الرقم بصورة مطردة مع استمرار نمو الاقتصاد الرقمي.
وفي ظل هيمنة الذكاء الاصطناعي، يُثير كل من تطويره واستخدام العملات المشفرة مخاوف بيئية فريدة. فعلى سبيل المثال، شهد تعدين البيتكوين ارتفاعاً هائلاً في استهلاكه للطاقة على مستوى العالم، حيث زاد بنحو 34 ضعفاً بين عامي 2015 و2023، ليصل إلى ما يُقدّر بنحو 121 تيراوات في الساعة. وبين عامي 2018 و2022، تضاعف استهلاك الكهرباء لـ 13 مشغلاً رئيسياً لمراكز البيانات، ما يُسلّط الضوء على الحاجة الملحة الى معالجة بصمات الطاقة والمياه المُهدرة من هذه التقنيات.
كذلك، شهدت التجارة الالكترونية نمواً هائلاً خلال العقود الماضية، حيث ارتفع عدد المتسوقين عبر الانترنت من أقل من 100 مليون في العام 2000 إلى 2.3 مليار في العام 2021. وقد أدى هذا الارتفاع إلى زيادة النفايات المرتبطة بالتقنيات الرقمية بنسبة 30 في المئة بين عامي 2010 و2022، لتصل إلى 10.5 ملايين طن على مستوى العالم. ويفاقم سوء التعامل والتخلص من النفايات الرقمية التفاوت البيئي، ما يؤثر بشكل غير متناسب على الدول النامية.
بناء مستقبل رقمي
ولضمان مستقبل رقمي مستدام، تُشدّد المنظمة الدولية على ضرورة تبني نهج شامل يجمع بين نماذج عمل مبتكرة وسياسات فاعلة تعمل على الحد من التأثيرات البيئية وتساهم في جسر الفجوة الرقمية. وتشمل أبرز التوصيات الرئيسية اعتماد نماذج الاقتصاد الدائري من خلال إعطاء الأولوية لإعادة التدوير وإعادة الاستخدام واستعادة المواد الرقمية للحد من النفايات والتأثيرات البيئية. كما تُوصي بوضع استراتيجيات لاستخدام المواد الخام بكفاءة أكبر والحد من الاستهلاك الإجمالي. ومن المهم أيضاً فرض معايير بيئية ولوائح أكثر صرامة للحد من التأثيرات البيئية للتكنولوجيات الرقمية، مع تعزيز البحث والتطوير في مجال التكنولوجيات الخضراء والممارسات الرقمية المستدامة. وينبغي تعزيز التعاون الدولي لضمان الوصول العادل إلى التكنولوجيا والموارد الرقمية، ومعالجة التحديات العالمية للنفايات الرقمية واستخراج الموارد.
لا يزال معظم البلدان النامية بحاجة إلى إنجاز المزيد من التحول الرقمي لكي يتمكن من المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي. ولتحقيق ذلك، أصبح دمج السياسات الرقمية والبيئية أمراً ضرورياً، إلى جانب تعزيز الجهود الفورية والمنسّقة من الحكومات وقادة الصناعة والمجتمع المدني. ويهدف هذا النهج إلى تحقيق تنمية رقمية مستدامة وشاملة تُمكّن الدول من الافادة من فرص الاقتصاد الرقمي مع حماية مصالح الأجيال الحالية والمستقبلية ورفاهيتها.