التضامن السعودي مع باكستان: ذاكرة وتاريخ

لبنان الكبير

د. علي عواض عسيري

 

العلاقة التي تربط المملكة العربية السعودية بباكستان متجذِّرة في ما يربط الدولتين من تاريخ ومصالح، فكلتا الدولتين تُعظِّمان كلمة الإسلام، المملكة العربية السعودية مهْد الإسلام، وباكستان جمهورية إسلامية. كما أنَّ العلاقات الشخصية، التي تجمع قادة البلدين أدَّت دورًا في تعزيز التضامن بينهما، وهذا ما جعل الدولتين تعضدان بعضهما في أوقات الأزمات خلال السنوات الأخيرة.

فباكستان مرَّت للتوّ بمرحلة تغيُّر سياسي صعب، وسط ظروفٍ اقتصادية وأمنية عسيرة. ونتج عن الانتخابات العامة المعقودة مطلع مارس تشكيل حكومة ائتلافية في المركز، وانتخاب رئيس. ويبدو أنَّ عسكرييها ومدنييها عازمون على التغلُّب على الأزمة الاقتصادية الحالية. ودعمت قيادة المملكة العربية السعودية من جانبها -كسابق عهدها- هذا السعي الباكستاني نحو مستقبلٍ أفضل.

وبرز أكبر مثال على التضامن السعودي مع باكستان، السبت 23 مارس، حين غادر وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، إلى إسلام آباد، في زيارة استمرَّت لمدَّة يوم. وكان سموّه ضيف الشرف في العرض العسكري المشترك للقوّات المسلَّحة المُقام سنويًّا بمناسبة «يوم باكستان»، لإحياء قرار لاهور، الذي اعتمدته رابطة مسلمي عموم الهند في عام 1940م. كما منح الرئيس الباكستاني الأمير خالد وسام نيشان، وهو الوسام المدني الأعلى في البلاد.

وكذلك يربط المملكة العربية السعودية وباكستان تاريخٌ طويل من التعاون العسكري، بدأ بتوقيع بروتوكول تعاون دفاعي في عام 1967م، وكان نطاقه مقصورًا على وجود مستشارين ومدرِّبين عسكريين باكستانيين في المملكة، وإتاحة فُرَص التدريب للضُبّاط السعوديين في الأكاديميات العسكرية الباكستانية. ثمَّ وُقِّع بروتوكول دفاعي آخر في عام 1982م، وسَّع نطاق التعاون الدفاعي، ليجري بموجبه تمركُز القوّات الباكستانية في المملكة لأغراض دفاعية ولأغراض التدريب العسكري، وكذلك لأغراض التصنيع والتقاسم الدفاعي والتدريبات المشتركة. ومنذ ذلك الوقت، والقادة العسكريون ومسؤولو الدفاع في كلا البلدين يعقدون اجتماعات دورية لتنسيق الأنشطة والسياسات الإستراتيجية. واكتسب هذا التفاعل زخْمًا كبيرًا في الماضي القريب، إذ إن تحقيق الاكتفاء في التصنيع الدفاعي أحد مرتكزات رؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. كما بلغ التعاون الدفاعي بين البلدين حد مكافحة الإرهاب على المستوى الدولي، إذ إنَّ القائد السابق للجيش الباكستاني، الجنرال رحيل شريف، يشغل منذ عام 2017م منصب القائد العسكري للتحالف العسكري الإسلامي لمكافحة الإرهاب، الذي يضُمّ 42 دولة إسلامية.

وخلال الأربعاء 20 مارس، التقى قائد الجيش الباكستاني، الجنرال عاصم منير، خلال زيارته إلى الرياض سمو ولي العهد، لتبادُل وجهات النظر حول القضايا الأمنية، والتقى أيضًا الأمير خالد، ووجَّه له دعوة خاصَّة لحضور احتفالات «يوم باكستان». وخلال زيارة سمو الأمير خالد إلى باكستان، التقى الجنرال عاصم منير مرَّةً أخرى، وكذلك الرئيس المُنتخَب حديثًا آصف علي زرداري، ورئيس الوزراء شهباز شريف. وأدلى سموّه بتصريحات تناقلتها وسائل الإعلام الباكستانية بأنَّ المملكة العربية السعودية وباكستان تربطهما علاقات تاريخية وأخوية قوية، وستظلّان دائمًا على توافُق.

وليس تصريح الأمير خالد سوى دليل على ما للتاريخ من قوَّة راسخة، تقود العلاقات السعودية-الباكستانية. وكذلك، فإنَّ للماضي صدى يسمعه حاضر التضامن السعودي مع باكستان، برز في بعض الأمثلة المهمَّة.

فمثلًا، في أبريل عام 1940م -أي بعد شهر على تمرير قرار لاهور- زار ولي العهد السعودي آنذاك، الأمير سعود بن عبد العزيز، كراتشي، وحظي باستقبال ودِّي من شخصيات بارزة في الرابطة الإسلامية، بمن فيهم «ميرزا أبو الحسن أصفهاني» و«منيار» و«كريم بهاي إبراهيم». وقد رافقه وفد كبير شمل إخوته الخمسة، منهم الأميران فيصل وفهد.

وفي عام 1943م، تعرَّضت ولاية البنغال ذات الأغلبية المسلمة لمجاعة مدمِّرة، دفعت رئيس رابطة مسلمي عموم الهند والأب المؤسِّس لباكستان، محمد علي جناح، إلى تأسيس صندوقٍ إغاثي للبنغال تابع للرابطة الإسلامية. وكان الملك عبد العزيز أول قائد استجاب لدعوة «جناح» للمساعدة في جمْع التبرُّعات، وجاء تبرُّعه السخي بمبلغ 10000 جنيه إسترليني للصندوق.

وفي نوفمبر 1947م، أي بعد شهرين على تأسيس دولة باكستان، أرسل «جناح» بمبعوثه الخاص «مالك فيروز خان نون» إلى المملكة العربية السعودية، وغيرها من الدول الإسلامية في الشرق الأوسط. وكان في استقباله الملك عبد العزيز شخصيًّا، وعرَضَ عليه نقله بطائرته الملكية إلى الظهران في طريق عودته إلى كراتشي.

وقد حافظ الملوك السعوديون، الذين خلفوا الملك عبد العزيز، على هذا التقليد، إذ ظلَّت العلاقات خاصَّة بين البلدين، وظلَّت قيمة باكستان كبيرة في نظر المملكة العربية السعودية.

فمثلًا كتب الملك سعود -قبل سفره إلى كراتشي في أبريل عام 1954م لافتتاح مدينة «سعود أباد» المُموَّلة من المملكة السعودية للمهاجرين الهنود المسلمين- خطابًا إلى حاكم باكستان الجنرال غلام محمد، جاء فيه: «سنسعد بلا شكّ إذا كانت باكستان أقوى، فقوَّة باكستان من قوَّتنا، وإذا هاجم اليهود الأرض المقدَّسة، فإنَّ باكستان ستكون أول المدافعين، كما وعدت».

وفي الستينيات، خلال عهد الملك فيصل، أُرسِيَت قواعد متينة للتعاون العسكري بين البلدين. وفي هذا الصدد، قال الملك فيصل، خلال حفل عشاء في كراتشي، وهي المدينة التي زارها عام 1943م: «إظهارنا مشاعر الأخوَّة والتعاون تجاه هذا البلد الإسلامي، هو أقلّ واجب يُمليه علينا ديننا وعقيدتنا».

وفي السبعينيات، اتّسع نطاق التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين، إذ دعمت المملكة العربية السعودية باكستان في حرب 1971م دبلوماسيًّا وعسكريًّا. وفي عام 1974م، عُقِدت القمَّة الثانية لمنظَّمة التعاون الإسلامي في لاهور، ما أسهم في رفْع معنويات الشارع الباكستاني بعد خسارة الجناح الشرقي، كما أسهمت المملكة بمعظم المساعدات الخارجية، التي تلقَّتها باكستان خلال ذلك العقد، البالغة نحو 1 مليار دولار.

وفي الثمانينيات، تحالفت المملكة العربية السعودية وباكستان مع الولايات المتحدة ضدّ الغزو السوفييتي لأفغانستان، وجاء في مذكِّرات الأمير تركي الفيصل بعنوان «ملف أفغانستان»، وصفٌ رائع للتعاون الاستخباراتي بين المملكة العربية السعودية وباكستان لهزيمة السوفييت بحلول 1989م. وفي ديسمبر عام 1980م، زار ولي العهد السعودي، الأمير فهد، إسلام آباد، وقال إنَّ أيّ تدخُّل في شؤون باكستان سيُعَدُّ تدخُّلًا في شؤون المملكة العربية السعودية وإضرارًا بها.

وفي مايو 1998م، وقفت المملكة العربية السعودية إلى جانب باكستان، حين اضطرَّت إلى إجراء تجارب نووية ردًّا على التفجيرات النووية الهندية. وقدَّمت لها دعمًا ماليًّا عاجلًا، وكذلك شحنات نفط على دفعات مؤجَّلة، حتى تستطيع باكستان مواجهة التأثير المدمِّر للعقوبات الاقتصادية.

وقبل أحداث 11 سبتمبر المأساوية بفترة طويلة، وصلتُ إلى باكستان بعد تعييني مبعوثًا للمملكة في عام 2001م، وأكملتُ فترتي الدبلوماسية في إسلام آباد في عام 2009م، حين كانت الحرب على الإرهاب في أفغانستان لا تزال في أوجها. وبتوجيهات من القيادة، حافظت على العلاقات الوثيقة مع القادة المدنيين والعسكريين في باكستان، لضمان أمنها واستقرارها خلال تلك الفترة الحرجة.

وفي 2005م، حين ضرب زلزال مدمِّر آزاد جامو وكشمير، أودى بحياة ما يزيد على 80 ألف شخص، كانت المملكة العربية السعودية الدولة السبّاقة في إنشاء جسر جوِّي لإغاثة الضحايا، وأنشأت مستشفييْن ميدانيين متطوِّرين مجهَّزين بطواقم طبِّية وتمريضية ومعدات طبِّية.

وفي أعقاب ما يُسمَّى بـ«الربيع العربي» عام 2011م، واجه العالم العربي اضطرابات غير مسبوقة، لكن قيادة المملكة الحالية استطاعت تجاوُز آثار تلك الموجة المدمِّرة، وقادت عمليات المصالحة والتنمية في المنطقة، وفي خِضَمّ تلك الفترة الصعبة، ظلَّ التضامن مع باكستان سِمةً ثابتة للسياسة الخارجية السعودية.

وقد مكَّن ولي العهد المملكة، انطلاقًا من رؤيته الرائدة 2030، من تحقيق مُنجَزات عِظام اجتماعية واقتصادية، أعادت تشكيل صورتها الإقليمية والدولية. ويعود له الفضل في تشكيل منظور جديد لإقامة علاقات بين المملكة العربية السعودية ومنطقة جنوب آسيا. وفي باكستان -خصوصًا- تحوَّل التركيز السعودي من تقديم الدعم المالي لها، إلى الاستثمار في تنميتها الاقتصادية.

وكان ولي العهد قد زار باكستان في عام 2019م، وتعهَّد بإقامة استثمارات بقيمة 20 مليار دولار في قطاعي الطاقة والتعدين. ومنذ تلك الزيارة، أكَّد في لقاءاته بالقادة المدنيين والعسكريين الباكستانيين في الرياض، دعْم المملكة المستمر لباكستان، وفي رؤيته الطموحة 2030م، فُرَص اقتصادية عظيمة، على قادة باكستان وشعبها أن يجمعوا أمرهم سياسيًّا ويستفيدوا منها.

وختامًا، فإنَّ تضامُن المملكة العربية السعودية مع باكستان، الذي أبرزه الأمير خالد بن سلمان خلال احتفالات يوم باكستان، يجب أن يدفع الباكستانيين نحو هذا المسار، فتاريخنا المشترك قاعدة نستطيع أن نبني عليها مستقبلًا من السلام والازدهار والتقدُّم.

* السفير السعودي الأسبق في لبنان وباكستان، نائب رئيس مجلس الأمناء في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية “رصانة”

المصدر: عرب نيوز

كلمات البحث
شارك المقال