14 شباط… “جريمة جارية” بحق لبنان، حتى إشعارٍ آخر… نجح الاستيلاء على الدولة والمؤسسات! (4)

ياسين شبلي
ياسين شبلي

بعد فشل محاولات “إغتيال” المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، إنتقلت قوى الثامن من آذار إلى محاولة الانقضاض على الدولة عبر سلسلة من “الانقلابات” على طريقة القضم التدريجي للمؤسسات، خصوصاً مع إنتهاء ولاية إميل لحود في 24 تشرين الثاني 2007، وتسلم حكومة فؤاد السنيورة مهام رئيس الجمهورية بعد الفشل في إنتخاب رئيس جديد للمرة الأولى بعد إتفاق الطائف.

إستمر الاعتصام في وسط بيروت مع ما يعنيه من ضرب للاستقرار والاقتصاد والسياحة، في بلد خارج من حرب شرسة مدمِّرة، تركت أثرها على بنيته التحتية وإقتصاده الذي ما كان ليصمد لولا الودائع والمساعدات العربية التي منعت إنهياره. ترافق ذلك مع الشلل السياسي والفراغ الرئاسي الذي أصبح منذ ذلك اليوم “عادة” لبنانية وفولكلوراً نعيشه كل 6 سنوات. كان الطريق مسدوداً أمام التسويات مع إنقطاع الحوار وتباعد المواقع ما بين المكونات السياسية، خصوصاً مع بداية ظهور بعض التقارير الاعلامية الأوروبية عن إحتمال تورط “حزب الله” في عملية إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وكان لا بد لهذا الانسداد من “تنفيسة” ما، فكانت قرارات حكومة فؤاد السنيورة في 5 أيار 2008 بخصوص الوضع الأمني في مطار رفيق الحريري الدولي وشبكة إتصالات “حزب الله”، التي أتت – كما يقال – بضغط من وليد جنبلاط، والتي لم نجد لها حتى اليوم تفسيراً مقنعاً ولا جواباً حاسماً عن سؤال منطقي هو ما فائدة إتخاذ قرارات مصيرية كهذه في وقت يعلم الجميع أنها غير قابلة للتطبيق؟ وهل كانت هذه القرارات “توريطة” لحكومة السنيورة، أم هي “غلطة الشاطر فؤاد” التي أعطت الذريعة والفرصة لقوى الثامن من آذار بقيادة “حزب الله” للانقضاض على بيروت والجبل في 7 أيار 2008- بالطبع هذا ليس تبريراً للجريمة – ذلك اليوم الأسود في تاريخ لبنان وبيروت الذي يعتبر بداية الانقلاب الحقيقي على الدولة ومصادرة مؤسساتها الدستورية، عبر إدخال هرطقات وبدع سياسية عليها ما أنزل الله بها من سلطان، كبدعة الثلث المعطل والوزير الملك، والمثالثة في الوزارات وإحتكار الحقائب وتقسيمها والصراع عليها ما بين سيادية وخدماتية؟ ولعل أكبر “البدع” وأكثرها ضرراً كان دخول جبران باسيل و”التيار الوطني الحر” “جنة السلطة” بصفته “الأقوى” بين المسيحيين والمدجج بإتفاق مار مخايل، وكلها بدع أتى بها إتفاق الدوحة الذي عُقِد غداة أحداث 7 أيار، التي كانت وكأنها تكملة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري وذلك عبر الحقد الذي بدا واضحاً في الهجوم على كل ما يمت إليه بصلة من مؤسسات ناجحة أنشأها كمحطة تلفزيون “المستقبل” التي أُحرِقَت بأرشيفها الغني، والصحيفة التي هوجمت بشراسة منقطعة النظير بحيث تعرضت حياة العاملين فيها لخطر حقيقي وعلى رأسهم الصحافي والمناضل الكبير المرحوم نصير الأسعد، وعبر التشفي الذي أظهره يومها ميشال عون عندما اعتبر أن “القطار قد عاد إلى السكة الصحيحة”، فكان 7 أيار بهذا المعنى هو الاغتيال الثاني لرفيق الحريري وكأني بهم يريدون التأكد من مقتله.

كان إتفاق الدوحة الذي أتى بقائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية “مكافأة” له من قوى 8 آذار لعدم زجه الجيش في أحداث 7 أيار، ولترضية فريق 14 آذار وطمأنته ولو نسبياً هو الذي كان قد طرح إسمه سابقاً. كان المفروض أن يكون هذا الاتفاق مرحلياً تنتهي مفاعيله بإنتهاء الانتخابات النيابية صيف العام 2009، “واللي بيربح صحتين ع قلبو” على حد تعبير الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله يومها، ولكن ككل شيء في لبنان يبدأ موقتاً ويصبح دائماً بقوة الأمر الواقع.

خاضت قوى 14 آذار الانتخابات تحت شعار “العبور إلى الدولة” وما أجمله من شعار، لكن حساب الحقل السياسي لم ينطبق على حساب البيدر – الشعار، مع أن هذه القوى ربحت الانتخابات، لكن العبور كان نحو الانقسام والتقوقع مع تغير الجو الاقليمي والدولي، بوصول الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما “المسالم” إلى سدة الادارة الأميركية، بعد ثماني سنوات من حكم المحافظين الجدد الذين ملأوا الأرض جوراً وحروباً، فكان أن إنسحب وليد جنبلاط من قوى 14 آذار، و”عَبَر” بحزبه وطائفته وما يمثِّل نحو خط “الوسط”. “الحكيم” سمير جعجع بدوره “عَبَر” بحزبه وعاد أدراجه نحو “المجتمع المسيحي” في مواجهة “التيار الوطني الحر” القادم الجديد والمدلل من “حزب الله” إلى السلطة. ولم يبقَ في الميدان إلا الرئيس سعد الحريري الذي كان “عبوره” هو الأقسى والأصعب على البلد وعليه شخصياً، وكان ذلك بطلب وضغط – أو لنقل تمنٍ – من السعودية إلى دمشق لينام في “ضيافة” بشار الأسد، بعد تشكيل حكومته الأولى على وقع “تحسن” العلاقات السعودية – السورية وعودة الحديث عن تفاهم السين – سين، وذلك على أمل إستعادة بشار الأسد من الحضن الايراني ولكن هيهات، ليتبين بعدها أنها كانت حركة جديدة لكسب الوقت من جانب “محور الممانعة” لسبر أغوار سياسة باراك أوباما في المنطقة، خصوصاً في العراق الذي يمثِّل أهمية كبرى لايران وبوابتها نحو كل من سوريا ولبنان، بحيث بدا متحمساً لإنهاء الوجود الأميركي هناك وتم توقيع إتفاق لسحب القوات الأميركية بحلول نهاية العام 2011، ما أطلق يد إيران ومحورها فكان الانقلاب “الأبيض” في لبنان على حكومة سعد الحريري بداية 2011 بينما كان مجتمعاً مع الرئيس الأميركي في البيت الأبيض في أحقر ممارسة سياسية شهدها لبنان، وذلك بذريعة شهود الزور، وبقوة بدعة الثلث المعطل والوزير الملك، هذه البدعة التي عطلت دور رئيس الجمهورية والتي يبدو أنها كانت ثمن التوافق عليه في الدوحة.

جاء الانقلاب على سعد الحريري خلافاً لكل ما أتى به تحالف قوى الثامن من آذار من فتاوى وممارسات عن ضرورة تمثيل الطوائف في السلطة بالأقوى تمثيلاً فيها، فجاؤوا بنجيب ميقاتي عبر “إنقلاب أسود” هذه المرة نفذته في شوارع بيروت مجموعات من “القمصان السود” ليكون بداية وضع اليد وبوضوح هذه المرة على الدولة. جاء الربيع العربي ليفسد على دول “محور الممانعة” وأتباعه خططهم، خصوصاً مع وصول الحراك إلى دمشق وإنتشاره بعدها على كامل التراب السوري ومن ثم تحوله إلى إنتفاضة مسلحة بعد العنف الذي واجهته به السلطات السورية، تدخَّل على إثرها “حزب الله” عسكرياً للدفاع عن النظام، بينما أيدت قوى 14 آذار – أو ما تبقى منها – المعارضة، ما ترك تداعياته على الوضع في لبنان، الأمر الذي دعا الرئيس سليمان للدعوة إلى طاولة حوار صدر عنها “إعلان بعبدا” في 11 حزيران 2012، الذي وافق عليه “حزب الله” لفظياً، ومن ثم – كعادته – ما لبث أن تبرّأ منه فعلياً قبل أن يجف حبره. بعدها بشهرين أي في شهر آب 2012، ألقي القبض على ميشال سماحة الوزير اللبناني السابق ومستشار الرئيس السوري بشار الأسد على خلفية نقله متفجرات بسيارته الشخصية من سوريا لاستعمالها في شمال لبنان ضد شخصيات ورجال دين مسلمين ومسيحيين من ضمن مخطط إرهابي لزرع الفتنة بين اللبنانيين. كانت شعبة المعلومات بقيادة اللواء وسام الحسن هي من أوقع به في عملية دقيقة، ما لبث أن دفع اللواء الشهيد حياته ثمناً لها عندما اغتيل في 19 تشرين الأول من ضمن عملية إضعاف الدولة وإفراغها من الكفاءات الوطنية المؤمنة بفكرة الدولة. تحت وقع هذه التطورات وبسبب خلاف بين أطراف الحكومة حول إجراء الانتخابات النيابية والتمديد للمدير العام لقوى الأمن الداخلي يومها أشرف ريفي، إستقال ميقاتي في 22 آذار 2013.

كانت كفة الحرب السورية قد بدأت تميل لصالح المعارضة المسلحة، الأمر الذي دفع “محور الممانعة” وأتباعه في لبنان الى العمل على خطين، في الداخل السوري عبر إستعمال الأسلحة الكيميائية ضد المعارضة لتأخير وعرقلة حسمها للمعركة، وفي لبنان من خلال خفض الرأس أمام العاصفة عبر محاولة التفاهم مع قوى 14 آذار على ما سمي يومها “ربط النزاع”، وذلك عبر الاتفاق على تكليف الرئيس تمام سلام تشكيل الحكومة الجديدة وعودة الحوار مع تيار “المستقبل” برعاية الرئيس نبيه بري، من دون أن ينسى النظام السوري وضع “بصمته” على الوضع وذلك بتفجير إرهابي كبير طال مسجدي التقوى والسلام في مدينة طرابلس في 23 آب 2013. كالعادة منذ إتفاق الدوحة و”بدَعِه”، وفي محاولة جديدة لكسب الوقت إستمر إختلاق العقبات ووضعها أمام تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام سواء بالسياسة أو بالأمن، بحيث اغتيل في 27 كانون الأول 2013 الوزير السابق ومستشار الرئيس سعد الحريري محمد شطح، الذي جاء إغتياله بعد اللواء الحسن وضرب الدولة في عصبها الأمني، وكأنه إستكمال لضرب الدولة في عصبها السياسي لما عرف عن الشهيد شطح من ممارسة سياسية سليمة تضعه في مصاف رجال الدولة لا رجال السياسة بمعناها المعروف لبنانياً.

دخل العام 2014 وهو عام الاستحقاق الرئاسي، كانت بدايته ساخنة أمنياً بتفجيرات في الضاحية الجنوبية لبيروت تبناها تنظيم “داعش” الارهابي الذي بدأ ينشط في سوريا، في رد منه – كما قال – على تدخل “حزب الله” في الحرب هناك. تشكلت حكومة تمام سلام في 15 شباط 2014 بعد 11 شهراً من العقبات والشلل المقصود للدولة ومقدراتها من 24 وزيراً على قاعدة المثالثة السياسية. فشل اللبنانيون مرة أخرى في إنتخاب رئيس للجمهورية في الوقت المحدد بسبب تمسك “حزب الله” بترشيح ميشال عون على قاعدة “عون أو لا أحد”. إنتهت ولاية ميشال سليمان وآلت السلطة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً كما نص إتفاق الطائف، لكن سياسة التعطيل والمناكفة إستمرت وبات للبنان 24 رئيساً ما زاد من شلل الدولة وبداية تحلل المؤسسات. جاء العام 2015 مليئاً بالتطورات في المنطقة التي صبت في صالح “محور الممانعة”، كانت بدايتها في إستدراج السعودية مجبرة إلى حرب اليمن بعد أن سيطر الحوثيون بدعم من إيران وتواطؤ من علي عبد الله صالح على صنعاء، ثم كان التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران ودول خمسة + واحد، وبعدها التدخل الروسي في سوريا الذي قلب الموازين بحيث مالت الكفة بعدها لصالح نظام الأسد. كل هذه التطورات زادت من تشدد “حزب الله” و”محور الممانعة” في لبنان عبر التمسك بميشال عون رئيساً جديداً للجمهورية، حتى بعد مبادرة الرئيس سعد الحريري بترشيح سليمان فرنجية وهو من المحور الممانع نفسه. الى أن كان إتفاق معراب لتقاسم المناصب المسيحية في الحكم بين “الأخوة الأعداء”، مقابل تزكية ميشال عون للرئاسة، وكان ما كان بعدها من تسوية رئاسية بين تيار “المستقبل” و”التيار الوطني الحر”، الذي كعادته وبعد وصوله إلى الرئاسة خريف العام 2016، وبعدها فوزه بالأكثرية في الانتخابات النيابية عام 2018 بسبب القانون الانتخابي الذي نجح في تمريره بمساعدة “القوات اللبنانية” التي رأت فيه تمثيلاً أفضل للمسيحيين من دون النظر إلى مثالبه الأخرى التي تعيد فرز الناس طائفياً، وموافقة تيار “المستقبل” على أساس الثقة بالتسوية الرئاسية – وهنا الخطيئة الكبرى – وكذلك دعمه لباسيل في بعض المناطق، عاد باسيل وإنقلب على كل ما اتفق عليه سواء مع سمير جعجع أم مع سعد الحريري، وكانت بداية الرحلة إلى جهنم على الرغم من الجهود التي بذلها الحريري وأهمها مؤتمر “سيدر” الذي أقرَّ دعماً للبنان بحوالي 11 مليار دولار مسبوقة بإصلاحات هيكلية وإقتصادية لم تتم، فكان أن إندلعت ثورة 17 تشرين 2019 التي لبى نداءها سعد الحريري وإستقال، لكن تحالف قوى الممانعة بقيادة “حزب الله” والسلطة ممثلة برئاسة الجمهورية، واجه الثورة بالحديد والنار في الشارع عبر الاعتداء والملاحقة من جهة، وعبر تركيب حكومة هجينة هي لزوم ما لا يلزم برئاسة حسان دياب حتى يتسنى لها إستكمال السيطرة على الدولة والمؤسسات وإستباحتها، وكان من نتيجته زلزال المرفأ الذي دمَّر نصف بيروت وأطاح بعدها بحكومة دياب التي قدمتها “العصابة” لتكون كبش محرقة أمام هول الفاجعة.

وبقية الحكاية باتت معروفة، لنصل اليوم إلى الذكرى الـ 18 لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري ولبنان مسلوب الارادة ، منهك وغير موجود على أجندة العالم بعدما كان أيام الشهيد مالئ الدنيا وشاغل الناس، ليتأكد أن عملية الاغتيال كانت تستهدف لبنان كدولة وكيان ومؤسسات بهدف إعادته ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وكرهينة هو وشعبه بأيدي “عصابة” من الأشرار لتساوم عليه في سبيل مصالح لا ناقة لنا فيها ولا جمل. وللأسف الشديد ومن دون أن نكون نساهم في نشر اليأس نقول انه حتى الآن – على الأقل – وحتى إشعار آخر نجح المخطط الذي بدأ بإغتيال الشهيد وتحول إلى “جريمة” جارية بحق لبنان وشعبه، عقاباً له على مقاومته التي قلبت كل الموازين وفاجأت القتلة يوم 14 شباط 2005 وما تلاه، وحتى حكم المحكمة الدولية الذي صدر بعد حوالي عشر سنوات على تأسيسها، بدا شبيهاً بقرارات حكومة السنيورة في 5 أيار الشهير – أي قرارات غير قابلة للتنفيذ -، على أمل أن تعود هذه الروح المقاومة يوماً ما في المقبل من الأيام، ويتفجَّر الغضب الصامت الذي يملأ صدور اللبنانيين كما تفجر الغضب الساطع والصارخ ثورةً في 14 شباط 2005، ليتحقق حلم الشهيد وحلمنا في وطن حر مستقر ومزدهر، يكون قدوة في المنطقة والعالم ويستعيد دوره الطبيعي بين الأمم، من حيث هو رسالة كما وصفه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، رسالة محبة وسلام وتعايش إنساني قائم على التسامح والاعتدال، بهذا فقط نكون قد حققنا الحلم ونؤكد وقتها للعالم أجمع بأن لا… ما خلصت الحكاية ولا رح تخلص قبل تجسيد الحلم حقيقة.

إقرأ أيضاً:
14 شباط… “جريمة جارية” بحق لبنان، البداية… رفيق الحريري – الرمز شهيداً! (1)
– 14 شباط… “جريمة جارية” بحق لبنان، إغتيال “إنتفاضة الاستقلال”! (2)
14 شباط… “جريمة جارية” بحق لبنان، محاولات “إغتيال” المحكمة الدولية! (3)

كلمات البحث
شارك المقال