الحكومة الأخيرة… أموال أو أهوال

أنطوني جعجع

أما وقد انطلقت الحكومة الأخيرة في عهد الرئيس ميشال عون، لا بد من السؤال: ماذا يمكن ان تفعله في سنة ما لم تفعله في خمس سنوات؟ وعلام استند الرئيس اللبناني في الوعود التي أطلقها مسوّقاً للرأي العام ما يشبه السير نحو الجنة؟

الجواب لا يحتاج الى الكثير من التدقيق والتمحيص، فلا الحكومة قادرة على اجتراح المعجزات في غياب الوسائل، ولا الرئيس عون قادر عل انقاذ عهده في غياب الضمانات، وجل ما في الأمر ان الضغوط الغربية في مكان، والتسويات الاقليمية – الدولية في مكان آخر، حتّمت تشكيل الحكومة بأي ثمن، بعدما وصل الكباش المستمر منذ سنوات الى ما يشبه تعبئة الماء في سلة مثقوبة، سواء في حسابات الأميركيين الذين ادركوا ان سلاح العقوبات المفروضة على محور الممانعة، أصاب اللبنانيين في مقتل يكاد يمحو لبنان عن الخارطة العالمية ويرميه في حضن “حزب الله” قسراً او طوعاً، وفي حسابات الممانعين الذين ادركوا ان السلبيات التي يمارسونها في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة، لن ترفع تلك العقوبات ولن تحمل الولايات المتحدة على تعديل مواقفها من الجمهورية الاسلامية في ايران.

والواقع، ان الرئيس نجيب ميقاتي، شأنه شأن الرئيس عون، يعرف في قرارة نفسه انهما لا يقودان البلاد عمليا في هذه المرحلة التي تسبق الانتخابات النيابية المقررة مبدئيا في الثامن من ايار المقبل، وان من يقودها ليس الا ايران عبر حسن نصرالله، واميركا عبر البنك الدولي والدول المانحة والمجتمع المدني.

والواقع ايضا، ان الرجلين يدركان في كواليسهما ان شراكتهما في هذه المرحلة لم تقم على برنامج عمل او على خريطة طريق استثنائية، بل على محاولة اخيرة لتأسيس ارضية، في ما تبقى من وقت، تسهم في جعل ميقاتي الزعيم السني الأبرز، وتجعل النائب جبران باسيل المرجع الماروني الاقوى والأقدر على إدارة شؤون البلاد على المستويات الاقتصادية والسياسية والديبلوماسية.

وتقر أوساط الرجلين بأن الحكومة لا تضم منقذين بقدر ما تضم شهوداً على ما يعتزم المجتمع الدولي تقديمه الى لبنان، لوقف التدهور والحؤول دون الارتطام الحتمي، وان مهمتهم لن تكون اكثر من ضمان قوة كل فريق داخل الحكومة، من خلال اللجوء الى الثلث المعطل في الأوقات الحرجة والى الشراكة في الاوقات المثمرة.

وتضيف الأوساط أن ما يجري خلف ستائر الحكومة لا يتعدى دراسة المزاج الشعبي في كل المناطق، والبحث عن مغريات ومحفزات تضمن للمرجعيات المعنية العودة الى مجلس النواب بالغالبية التي تتحكم بمفاصل البلاد وتحسم هوية الرئيس المقبل، مؤكدة ان معظم الوزراء يعرفون ان وجودهم في السلطة لن يكون الا صدى مَن سَّماهم، وأن لبنان الآن يبحر في سفينة فرنسية ايرانية اميركية تشق طريقها وسط بحر هائج وتبحث عن اكثر المرافىء أماناً للرسو فيه.

فما جرى من خلال قوافل المازوت الايراني، وجه رسالة سريعة الى الرأي العام الشيعي المتململ في بعض المناطق الحساسة من خيارات “حزب الله”، ورسالة مباشرة الى الحكومة الجديدة تؤكد ان الأمر ليس لها في لعبة الكبار، وتحدياً شكلياً للعقوبات الاميركية، في حين فرض البنك الدولي، بايعاز من اميركا، شروطه على المنظومة السياسية الحاكمة تقوم على واحد من خيارين: اما الاموال وإما الأهوال.

من هنا نستطيع القاء الضوء على الانتعاش في قيمة العملة الوطنية، وهو انتعاش يتجه نحو تثبيت سعر الصرف تلبية لواحد من شروط البنك الدولي، على ان تتوالى التلبيات الاخرى تباعاً، وفي مقدمها “تشحيل” حاد في تخمة الموظفين الطارئين، والقيام بإصلاحات سريعة في مجال الطاقة والتعليم والطبابة والبنى التحتية بإشراف مباشر من المقرضين او الدائنين او المانحين، فضلا عن توفير كل ما يلزم من شفافية وتسهيلات لاجراء الانتخابات النيابية في موعدها.

من هنا أيضاً، يمكن القول إن لا وجود لأي سلطة حاسمة في هذه الحكومة لا على مستوى رئيسها ولا وزرائها، ولا على مستوى عرابها الثنائي عون – باسيل، وذلك وسط معطيات تفيد بان التسوية التي سبقت تشكيل الحكومة قامت على نصفين: نصف للممانعين يعطيهم قدرة التحكم بمعظم الوزارات السيادية، ونصف يعطي الاميركيين والفرنسيين القدرة على ايصال النصف الاول الى صناديق الاقتراع منهكا او مقصرا او مكشوفا ومدينا بكل انجاز الى المجتمع الدولي لا الى ايران المتعطشة لفك الحصار الاميركي والدولي، ولا الى سوريا المتهالكة للعودة الى الحظيرة اللبنانية والعربية، ولا الى “حزب الله” المتلهف لتبرئة ساحته وخياراته مما أصاب لبنان من عقوبات وحصارات وويلات. حتى الآن، وحده الرئيس ميقاتي يبدو الاقرب الى الاحراجات منه الى الرئيس عون الذي سلم بمشيئة المحور الايراني – السوري من دون اي اعتراص او حتى تحفظ، ليصب كل اهتمامه على تسجيل بعض المغريات التي يمكن ان تعومه شعبيا ومنها “التحقيق الجنائي” وبعض التنازلات التي يمكن ان تلغي العقوبات المفروضة على النائب باسيل، ومنها خصوصاً ما يتعلق بترسيم الحدود البحرية وتوقيع مراسيم الحكومة.

وما ينطبق على عون لا ينطبق في الضرورة على ميقاتي، الذي وجد نفسه رئيساً لحكومة يديرها سواه، او في معنى آخر رباناً لسفينة يبحر بها “حزب الله” بعيداً من الشواطئ اللبنانية ويعترضها المجتمع الدولي في عرض البحر، بحيث تعجز عن التقدم نحو إيران من دون لبنان وعن العودة الى قواعدها من دون ايران.

شارك المقال