الطيونة… من كان يعلم؟!

أنطوني جعجع

في علم التاريخ ليس سراً أن كثرة التحديات الناتجة من “فائض قوة” زائد و”فوقية” عسكرية ضاغطة ومتراكمة، لا بد من أن تقود الى دعسات ناقصة متتالية على الارض في مكان، والى حسابات خاطئة في مكان آخر، وتالياً الى انفجار قد يُعرف كيف يبدأ لا كيف يتطور أو ينتهي ..

ما جرى في الطيونة الأسبوع الماضي، كان من دون شك ذاك “الانفجار” الذي كان محتوماً لدى قوى المعارضة المحقونة، ومستبعداً لدى قوى الممانعة المطمئنة الى هيبتها وسلاحها، لكن المفارقة انه جاء في وقت لم يكن “حزب الله” في وضع محلي واقليمي مريح يسمح له بخوض أي مغامرات غير مدروسة قد تلهيه عما يجري في الاقليم بعد نكسة الانتخابات التشريعية العراقية، وعلى الجبهة الايرانية المتوترة والمعقدة مع كل من الولايات المتحدة والخليج…

والسؤال هنا، من نقل “التحرك السلمي” في اتجاه قصر العدل الى ما يشبه “الغزوة” في مكان آخر، وما دخل منطقة ذات غالبية مسيحية سقط بعض ابنائها في انفجار المرفأ، في الكباش القائم بين الثنائي الشيعي والقاضي طارق البيطار؟ وما دخل المسيحيين عموماً سواء المحايدين او الحزبيين في ما يقلق “حزب الله” ويغيظ حركة أمل ويزعج تيار المردة؟

والسؤال الآخر، لماذا حلّ السلاح محل الحجارة والعصي والسكاكين، في مواجهة لم تكن الاولى بين فريقين لا يبدو أن السلم الاهلي قد تجذر في نفوسهما وعقولهما منذ إخماد الحرب اللبنانية قبل ثلاثين عاماً؟

ولماذا لم ينزل أنصار الرئيس بري الى الشارع يوم سقطت العقوبات الاميركية على رأس علي حسن خليل، وكذلك تيار المردة عندما سقطت على رأس يوسف فنيانوس، ولماذا لم يتحرك “التيار الوطني الحر” على الأرض عندما اصابت جبران باسيل، مكتفياً بإطلاق بعض البيانات الدفاعية الخجولة؟

هل الحرب ضد أميركا هي غيرها ضد البيطار وعين الرمانة؟ وهل يؤمن هؤلاء حقاً ان المعارضين المسيحيين وسواهم من المعترضين في البيئتين الشيعية والسنية، هم حقا “ازلام سفارات” ويجب “اقتلاعهم من جذورهم”…؟

والسؤال ايضاً، هل يدرك الثنائي الشيعي، أنه تحول الى قوة عسكرية ضائعة غير محددة الاهداف والمسارات، في وقت يناصر قسم منه ايران في السراء والضراء، ويضع قسم اخر قدماً في دمشق وقدماً في لعبة التوازنات العربية والدولية، لكنهما يتفقان على ضرب أو اعتراض كل من يحاول ان ينتزع سلاحهما او مكاسبهما او ومواقعهما، وهذا ما حدث في مواجهة السنة والدروز في “السابع من ايار”، وفي كل حكومة منشودة لا يملكان فيها اليد الطولى سواء عبر الثلث المعطل او الحقائب السيادية، وما حدث مع قسم كبير من المسيحيين الذين كانوا يراقبون بمرارة اصحاب “القمصان السود” وهم يقتحمون مناطقهم وحقولهم ومحطاتهم وأفرانهم، رافعين ما تيسر من عتاد مكشوف او سلاح ابيض مستعد للطعن والتهويل والترهيب، من بلدة مغدوشة حتى المتن وجبيل وبعض كسروان والبقاع …

وما زاد في الطين بلة اقتناع القسم الأكبر من المسيحيين بأن الرئيس ميشال عون يغرد في مكان آخر، وأن الجيش يأتمر ويعمل انطلاقاً من عقيدة اخرى، وأن البطريرك الماروني يسجل “حركة بلا بركة”، معتبرين أن الاحزاب باتت المرجع الاكثر قدرة على استرجاع بعض النفوذ والهيبة، سواء كانوا، في هذا الانطباع، على خطأ او على صواب …

وما لم يدركه هؤلاء، أن الغطاء الشعبي الذي حظوا به على مدى سنوات طويلة، قد بدأ بالتآكل، يوم تحولت البندقية من هدف التحرير الى هدف التدجين على مستوى السياسيين والناس، والتغيير على مستوى الكيان والتاريخ، والاحتكار على مستوى السلاح والمال، والتوسع على مستوى المذهب والسلطة والحنين الى امبراطوريات منشودة..

وما لم يدركه هؤلاء أيضاً، أن كثرة الاستفزازات والتحديات، وضعت هذا الثنائي وتحديداً “حزب الله”، في مواجهة كل العرب باستثناء بشار الأسد، وكل اللبنانيين باستثناء التيار الوطني الحر وبعض الدروز والسنة المتحالفين مع النظام السوري، ولم يجدوا في العالم متنفساً يتجاوز سوريا وايران وفنزويلا، وهي كلها دول مضطربة ومفلسة ومحاصرة…

انه الخطأ نفسه الذي ارتكبه ياسر عرفات عندما تعالى على السلطة اللبنانية، وخربط التركيبة اللبنانية المعقدة والحساسة، واحتضن معظم المنظمات الارهابية أو الثورية في العالم، وفي مقدمها حزب “العمال الكردستاني”، ومنظمة “بادر – ماينهوف” الالمانية، ومنظمة “الالوية الحمر” في ايطاليا، و”الجيش الاحمر” الياباني، وتواصل مع “الجيش السري الارمني” و”الجيش السري الايرلندي”.

ولم يكن الجنرال ميشال عون على رأس الحكومة العسكرية الانتقالية أفضل حالاً، ولا سمير جعجع على رأس القوات اللبنانية، عندما اعتقدا ان فائض القوة لديهما يمكن ان يغير او يواجه معادلات اقليمية ودولية، فوقعا معاً في التجربة المرة، ليذهب احدهما الى المنفى بعد سقوطٍ عسكري مهين لم يتوقعه ابداً، ويذهب الثاني مخفوراً الى السجن بعد تحول سياسي خطير لم يقرأه جيداً…

وما ينطبق على عرفات وعون وجعجع ينطبق ايضاً على بشار الاسد الذي لم يكن اكثر حكمة، فارتكب ما يكفي من الاخطاء القاتلة التي وضعته خارج الكيان اللبناني وكادت تخرجه من سوريا نفسها .

وهنا نسأل، الا يحتضن “حزب الله”، حركتي “حماس” و”الجهاد الاسلامي” في غزة، و”الحشد الشعبي” في العراق، والمعارضين الشيعة في البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية، والحوثيين في اليمن، وهي كلها رؤوس مطلوبة للقطع اقليمياً ودولياً..؟ الا يواصل “حزب الله” ارتكاب الاخطاء والتحديات المحلية والدولية، الى الحد الذي تحول الى تنظيم غير مرغوب فيه لدى اكثر من خمسين دولة، والى حركة ثورية اصولية تشكل الدعامة الابرز في صمود ايران اقتصاديا وعسكريا…

واكثر من ذلك، ألم يتجاوز السيد حسن نصرالله كل السلطات والمقامات على انواعها، سواء كانت سياسية في قصر بعبدا، او عسكرية في اليرزة، او دينية في بكركي، او مذهبية في دار الافتاء، او قضائية في قصور العدل، او اقتصادية في المصارف والاسواق وعالم المال، او دبلوماسية في قصر بسترس، او تشريعية في ساحة النجمة، أو تنفيذية في كل الساحات، وسوى كل ذلك من شجون وشؤؤن، الى الحد الذي رسخ قناعةً لدى الجميع في الداخل والخارج، تفيد “انكم اذا اردتم ان تعرفوا ماذا في لبنان أنصتوا الى خطابات نصرالله…”.

واكثر من ذلك، تحول “حزب الله” من حيثية لبنانية تسدي النصائح الى حاكم يعطي الاوامر، ويصر على تنفيذها من دون مناقشة ومن دون اي تخوف من تداعيات او سلبيات من هنا او هناك، وكاد يضع خطا أحمر لأي محاولة لرد مطلب من مطالبه او الانحراف عن مسار من مساراته…

وما لم يدركه “حزب الله”، انه اوقع نفسه في “حقل الغام”، عندما تخطى تعاطفاً شعبياً ودولياً شبه شامل مع المحقق العدلي، ووقف في وجه التحقيق الجاري لتحديد من يقف قصداً او سهواً وراء انفجار أوقع اكثر من مئتي ضحية وآلاف الجرحى معظمهم من المسيحيين، ودمر قسماً كبيراً من منطقة تشاء الصدفة ان تكون الغالبية فيها غالبية مسيحية، وتعامل مع الكارثة وكأنها حدث عادي، ومع التحقيق وكأنه لزوم ما لا يلزم، واوقع نفسه في شبهات اعقبت عدداً من التصفيات التي اودت بشهود او عارفين او مطلعين …

وبعيدا من كل هذا العرض، نعود الى الطيونة، لنقول إن ما جرى هناك على فداحته، هو انعكاس لكل هذا المشهد الضاغط، وردة فعل على كل هذا الاحتقان الذي تراكم في شكل يومي تقريباً، وكل هذا الاستخفاف بقدرة الخصم على الرد المباشر ولو كان في الامر ما يشبه الانفجار الكبير أو الامتحان الأخير…

واخيراً، لا بد من القول إن ما جرى في الطيونة، يثبت أن “حزب الله” فعل في الداخل ما فعله على الحدود قبل اندلاع حرب تموز، مع فارق وحيد يتمثل في انه لم يكن يعلم في المرة الاولى، ولم يكن يريد ان يعلم في المرة الثانية…

ها هو “حزب الله” اليوم، على عداء مضبوط مع السنة، وعلى جرح لم يُختم بعد مع الدروز، وعلى جرح فُتح مع المسيحيين، وعلى تحالف ملتبس لا يعتد به مع تيار المردة والتيار الوطني الحر، وعلى مواجهة مفتوحة مع الاميركيين والعرب والاسرائيليين والسنة من معتدلين واصوليين…

والسؤال الدائم، أين لبنان القوي؟ اين يبدأ دور الجيش وأين ينتهي؟ من حوله الى محايد في مكان وشرطي في آخر؟ من يأمره ويحدد مهامه؟ هل هي السلطة السياسية المتماهية مع حزب الله ؟ هل هم الاميركيون؟ هل هو الخوف من الانقسام او من مواجهة غير محسومة النتائج تشبه تلك التي واجهها مع القوات اللبنانية في “حرب الالغاء”؟

واكثر من ذلك ، من اين يأتي كل هذا السلاح؟ وماذا يمكن ان يحدث اذا قرر احدهم فتح كل الجبهات دفعة واحدة؟ ولماذا الإصرار على الغاء الطائفية السياسية وليس الغاء السلاح الطائفي كما ينص اتفاق الطائف؟ والام تستمر هذه الانتقائية في عالم الطائف بحيث يكون السلاح نعيماً لدى اكثرية الشيعة وجحيما لدى آخرين سواء كانوا مسيحيين او سنة او دروزاً؟

اسئلة كثيرة لا مجال لسردها في هذه العجالة، لكن ماذا بعد؟ 

لقد خاص “حزب الله” تجربة السير مع ايران ونحو ايران وتلمس محاصيله، فهل يدرك ان الوقت ربما حان لخوض تجربة العودة الى لبنان، ولبنان فقط، او على الأقل العودة الى الرشد الذي لا يسمح لـ “الطوابير” بجره الى الفتنة، والذي يصحح المسار ويتجنب الحسابات الخاطئة، ويتعامل مع كل خصم لبناني على انه مجرد خصم سياسي او عقائدي لا خائن ولا عميل؟

شارك المقال