هل تعيد واشنطن التفكير في سياسة العقوبات وصولاً إلى التخلي عنها؟ سؤال يبنى عليه تحليل في موقع “ذا هيل” (the hill) الإلكتروني الأميركي، في ضوء إعلان إدارة الرئيس جو بايدن الحدّ من العقوبات الاقتصادية كأداة للسياسة الخارجية. وبحسب المقال الموقع بقلم لورانس هاس، الكاتب والباحث في مجلس السياسة الخارجية الأميركية، يعتبر هذا الإعلان غاية في الأهمية لأنه يأتي بعد عقدين على استخدام صانعي السياسات العقوبات كأدوات ضد الحكومات والأفراد والكيانات التي صُنّفت كجهات فاعلة سيئة.
وينطلق التحليل من تقرير لوزارة الخزانة الأميركية يلحظ بعد مراجعة استمرت تسعة أشهر، أن “العقوبات الاقتصادية والمالية أصبحت عقب هجمات 11 أيلول 2001، الملاذ الأول للرد على مجموعة من التهديدات الموجهة ضد الأمن القومي والسياسة الخارجية والاقتصاد الأميركي. وتعتمد هذه الأداة على القوة الهائلة التي تتمتع بها الولايات المتحدة وعلى الثقة في نظامها المالي وفي عملتها. ومع ذلك، دعت الوزارة لربط العقوبات الاقتصادية والمالية في المستقبل بأهداف واضحة ومنفصلة تتوافق مع التوجيهات الرئاسية ذات الصلة، كمواجهة القوى التي تغذي الصراعات الإقليمية ووضع حد لدعم المنظمات العنيفة وغيرها من الأنشطة الخبيثة وغير المشروعة، إضافة إلى كبح اضطهاد الأقليات والحد من أنشطة الانتشار النووي أو تعزيز الضغط متعدد الأطراف أو وضع حد لارتكابات فظيعة معينة.
ويمكن أن تثبّت فكرة الحد من استخدام العقوبات، على غرار الحظر التجاري والقيود على الاستثمارات وتجميد أصول الحكومات أو الأفراد، تغييراً جذرياً بالنسبة إلى صانعي السياسة الأميركيين الذين اعتمدوا في السنوات الأخيرة، العقوبات بمثابة رد سريع على السلوك السيئ في العالم. وهذا ما تؤكده الأرقام المذهلة، إذ ارتفعت أعداد العقوبات التي فرضها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة (OFAC) وبرامج العقوبات المنفصلة بنحو 933% خلال أكثر بقليل من عقدين. ولا تشمل هذه النسبة العقوبات المنفصلة التي تفرضها الإدارات الأخرى، مثل وزارة الخارجية والتجارة والأمن الداخلي والعدل. وبإمكان وزارة الخارجية، على سبيل المثال، تسمية منظمة أجنبية ككيان إرهابي أو، أن تصف كما تفعل في التقارير السنوية حول حقوق الإنسان، حكومة ما بأنها راعية للإرهاب، لتمهد مثل هذه التصنيفات الطريق أمام فرض عقوبات من مختلف الأنواع. كما لا تشمل النسبة المذكورة آنفا العقوبات متعددة الجنسيات التي تفرضها واشنطن، بنجاح في بعض الأحيان، في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو في الاتحاد الأوروبي، مثلما حصل مع كوريا الشمالية وإيران على خلفية برامجهما النووية. وبالتزامن مع تنامي أعداد العقوبات الأميركية المفروضة، لا بد من الإشارة إلى ازدياد العقوبات العالمية والإقليمية، سواء أكانت مدعومة أم لا من واشنطن، من حيث العدد والنطاق.
قفزة في نسب العقوبات
وللمقارنة، خلال الحرب الباردة، لم يفرض مجلس الأمن عقوبات إلا على دولتين فقط (روديسيا الجنوبية عام 1966 وجنوب أفريقيا عام 1977)، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الخلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عدا عن قضايا أخرى. ومع ذلك، فرض المجلس عينه منذ العام 1990، عقوبات على أكثر من 20 دولة أخرى. وكان من الممكن أن يسجل رقما أعلى بكثير، لو لم تستخدم الصين وروسيا، على سبيل المثال، حق النقض “فيتو” ضد العقوبات على سوريا بسبب الحرب الأهلية الوحشية التي مزّقتها في السنوات الأخيرة. وبالمثل، وسّع الاتحاد الأوروبي الذي كان قد فرض عقوبات لأكثر من 30 مرة، من نطاق هذه العقوبات مؤخرا. وبعد التركيز التقليدي على الأفراد والشركات، فرض الاتحاد عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي (على الرغم من أنه أسقطها كجزء من الاتفاق النووي العالمي مع إيران في العام 2015).
لا شيء مما سبق يثير الدهشة لأن العقوبات توفر بديلاً مناسباً بين الخيارات القطبية للديبلوماسية والحرب. فهي تنشّط الضغط الأميركي أو الإقليمي أو العالمي من دون الحاجة إلى إراقة الدماء، كما أنها تعمل بفعالية في بعض الأحيان. وأدت التصنيفات الأميركية لأكثر من 1600 كيان وفرد على مدى العقدين الماضيين إلى إضعافهم، مثلاً من خلال تجفيف مصادر تمويلهم. كما جلبت العقوبات الأميركية والعالمية إيران إلى طاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي قبل الاتفاقية النووية لعام 2015 (على الرغم من انقسام الغرب حالياً حول كيفية وسرعة إحياء هذه الصفقة في إطار مفاوضات فيينا). ولا يقدم تقرير الخزانة سوى مبادئ توجيهية عامة للاستخدام المستقبلي للعقوبات، من دون تحديد مدى تأثيرها. ومع ذلك، فإن مجرد فكرة تقييد العقوبات تثير بعض الأسئلة المحيّرة، فطرح الخزانة يتوخى على سبيل المثال “تنسيق العقوبات مع الحلفاء”. هذا واضح ولكن كيف يمكن لواشنطن التصرف في مواجهة معارضة الحلفاء؟ خصوصاً في الملفات التي تشكل فيها الولايات المتحدة هدفاً أكبر لنظام خارج عن القانون، مثل طهران، مقارنة بحلفائها في أوروبا أو في أي مكان آخر في العالم؟
النقطة الثانية التي تطرح التساؤلات هي صياغة العقوبات بشكل “يخفف من وطأة الآثار الاقتصادية والسياسية غير المقصودة على العمالة المنزلية والشركات والحلفاء والسكان غير المستهدفين في الخارج”. كيف تتصرف واشنطن في حال ثبت أن المعاناة التي تفرض على “السكان غير المستهدفين في الخارج” تساعد في إضعاف الحكومة في السلطة؟ عندما ناقشت واشنطن العقوبات المفروضة على جنوب أفريقيا في الثمانينيات على سبيل المثال، جادل النشطاء داخل البلاد بأن الفوائد طويلة الأجل للضغط على الحكومة ستفوق المعاناة التي ستصيب الشعب هناك على المدى القصير.
وهناك سؤال أخير: هل سيجبر تقليص استخدام الولايات المتحدة للعقوبات بشكل متزايد صانعي السياسة على الاختيار بين: (1) شن حملة لعزل نظام قد لا يبالي أصلا بخروجه عن القانون، و (2) العمل العسكري بشكل فردي أو مع الحلفاء، وبالنتيجة إراقة الدماء والعواقب غير المقصودة؟
من المسلم به أن الإجابة على هذه الأسئلة ليس بالسهل، لكن إدارة بايدن تستحق الثناء لأنها بادرت إلى طرحها”.