الخليج للبنان: هذا ما جنته يداك

هدى علاء الدين

يشتدّ الخناق على لبنان لتكتمل بذلك صورة العزلة التي أرادها لنفسه، عزلة سياسية واقتصادية لن يكون باستطاعته فكّ قيودها بعدما حاك كل خيوطها بتمعنٍ وعن سابق تصور وتصميم. لبنان الذي دخل زمن الرداءة في علاقاته مع الدول الخليجية، ولا سيما المملكة العربية السعودية، مدَعّماً بسلطة حاكمة وقيادات تسعى جاهدة لإلغاء هويته العربية، وضعت مسيرته الحافلة مع الدول العربية والخليجية في منعطف خطير.

الأزمة، وإن كانت في ظاهرها رد فعل على قول، يعتقد البعض أنه مبالغ فيه، وأن تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي لا يمكن أن تكون وحدها هي السبب في كل ما آلت إليه الأمور، وهذا صحيح لأن ما حصل ليس قصة رمانة، بل قلوب مليانة جرّاء الفشل في إيقاف كل ما يهدد أمن هذه الدول وعلى رأسها المملكة، بعدما فشل لبنان فشلاً ذريعاً في السيطرة على قراراته السياسية وفقد القدرة على التحكم بها، وبات الهدف منها يدور في فلك شد الحصار الداخلي عبر تقييد عمل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي والخارجي عبر ضرب العلاقات اللبنانية – الخليجية. ففي وقت كان لا بد فيه من البحث عن سبل الخروج من الأزمة الاقتصادية وكيفية إعادة الثقة ورأب الصدع الحاصل في علاقات لبنان مع محيطه العربي والخليجي، جنح لبنان بشكل غير متوقع في التوقيت والمضمون عبر وزرائه الذين آثروا التصعيد على التهدئة، لتصل درجة التأزم إلى أقصاها، ويدخل لبنان في مرحلة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بينهما، متناسين أن لبنان عربي الانتماء والنهج الذي لا يمكن أن يُسلخ عنه بالقوة والإجبار، وأن فصله عن محيطه الذي طالما سانده سياسياً واقتصادياً ومالياً في محنه وأزماته وجرّه إلى محاور معادية لن تُخرجه من عزلته بل ستدخله في إقامة جبرية قاسية، ملبية في ذلك طموحات عمرها سنوات وسنوات.

تراكمات كثيرة وخلافات جوهرية أجبرت دول الخليج وقياداتها على تغيير طريقة تعاملهم ولهجة خطابهم، رافضين بشكل قاطع اعتماد المسؤولين اللبنانيين لغة التهديد الأمني والسياسي. فلجأت إلى معاملة لبنان بالمثل ورد الصاع صاعين وتضييق الخناق على التبادل التجاري الذي أفقد لبنان مصدراً رئيسياً لدخول العملة الأجنبية إليه، ليخسر بذلك ليس علاقاته السياسية فقط مع مختلف دول مجلس التعاون الخليجي، بل علاقاته الاقتصادية الذي هو بأمس الحاجة إليها اليوم. فالأرقام تشير إلى أن لبنان صدّر إلى هذه الدول خلال السنوات الخمس الأخيرة ما يفوق الـ 900 مليون دولار، في حين وصلت نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي أتت منها منذ العام 2000 إلى 80 في المئة، والتي انصبّ القسم الأكبر منها في القطاع العقاري. وفي توثيق لحجم المساعدات المالية التي قدمتها المملكة العربية السعودية فقط إلى لبنان، يشير تقرير دولي صادر في وقت سابق إلى بلوغها 70 مليار دولار ما بين عامي 1990 و2015 مقابل 100 مليون دولار أميركي قدمتها إيران للحكومة اللبنانية وموازنة سنوية قدرها 200 مليون دولار مخصصة لـ “حزب الله”. فخلال حرب تموز 2006 وحدها، قدمت المملكة وديعة مالية بقيمة مليار دولار، في حين قدّمت إيران 25 مليون دولار فقط لإعادة بناء طرق وترميم البنية التحتية في لبنان عام 2007، وبعض المساعدات الغذائية والإنسانية من طريق “حزب الله”، في دليل واضح على أن علاقة المملكة لم تأخذ يوماً أي طابع مذهبي أو لمصلحة فئة من الشعب على مصلحة فئة أخرى.

وفي تقرير اقتصادي آخر صدر العام 2016، استند فيه إلى إحصاءات غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان، قدّر الاستثمارات التراكمية لدول الخليج في لبنان بنحو 11.3 مليارات دولار، حصلت السعودية على الحصة الأكبر منها بنحو 4.8 مليارات دولار، تلتها الإمارات بنحو 2.9 ملياري دولار، ومن ثم الكويت بنحو 2.8 ملياري دولار. وفي ما يتعلق بحجم الإستثمارات اللبنانية في دول مجلس التعاون الخليجي، فتُقدر الإستثمارات اللبنانية بنحو 4.7 مليارات دولار، منها 2.4 مليارا دولار في السعودية، و1.5 مليار دولار في الإمارات، في حين بلغت في الكويت 680 مليون دولار. أما عن تحويلات اللبنانيين المقيمين في دول الخليج فقد شكلت في الآونة الأخيرة ثقلاً كبيراً أعانت لبنان وعائلاتهم في أسوأ الأزمات وأشدها وقعاً، إذ بلغت تحويلاتهم يومياً نحو 1.5 مليون دولار عبر مؤسسات التحويل المالي فقط، و4.5 مليارات دولار سنوياً وذلك بحسب تقديرات مجلس الأعمال اللبناني السعودي.

حتى اللحظة، لا تبدو عودة العلاقات بين لبنان ودول الخليج العربي إلى طبيعتها سهلة المنال، في ظل قرارات جنونية تخلط الأوراق السياسية وتهدّد هوية لبنان وتعطل مسار نهوضه بما لا يصب في مصلحة اللبنانيين. فالأزمة الديبلوماسية اليوم عميقة وسيكون لها انعكاسات سياسية واقتصادية متعددة الجوانب، ستتطلب عودتها إلى مجاريها الطبيعية جهوداً كبيرة وقرارات سياسية جريئة، خصوصاً أن دول الخليج ساهمت بشكل حيوي في جذب الاستمارات إلى لبنان وفي مساعدته ودعمه مالياً عبر مساعدات ومنح وهبات وقروض ميسّرة وودائع طويلة الأجل في المصارف منذ اتفاق الطائف ولعبت دوراً أساسياً في إعادة إعماره وكانت من أبرز الدول المانحة في المؤتمرات الداعمة له (باريس “1” و”2″ ومؤتمر سيدر)، لكنها ترى اليوم في موقفه الرسمي تخاذلاً وتهاوناً تجاهها، لتكون بذلك رسالة الخليج إلى لبنان واضحة الرؤية مفادها: “هذا ما جنته يداك”.

شارك المقال