هيئة الإغاثة… عين السلطة عليها

هدى علاء الدين

ليست المرة الأولى يتهجم وزراء لبنانيون يدورون في فلك سياسي واحد على دول الخليج، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، في إطار حملة إعلامية واسعة تدعم مواقف هؤلاء وتساندهم وترفض أي قرارات تصحيحية من أجل عودة العلاقات اللبنانية – الخليجية إلى ما كانت عليها في السابق.

لذا، أتت تصريحات وزير الخارجية الأخيرة عبد الله بو حبيب، بمثابة استمرار لهذا النهج المعادي، إذ لم تكن لا في التوقيت ولا في المضمون لمصلحة لبنان وشعبه. بو حبيب الذي قلّل من جهود دول الخليج والسعودية في دعم لبنان، اعتبر أن الداعم الأكبر لبلاده مالياً هو الاتحاد الأوروبي، متهماً السعودية بإعطاء الكثير من الأموال من أجل الانتخابات والمساعدات لهيئة الإغاثة بعد العام 2006 التي لا يعرف أين صُرفت، لكن الدولة لم تأخذ منها شيئاً، حسب زعمه.

كلام حبيب الذي حمل في طياته تصويباً مباشراً على الهيئة العليا للإغاثة، التقى ضمنياً مع الأهداف المبطنة لتعويم دور المجلس الأعلى للدفاع بحجة أنه يقوم بمهام استثنائية بعد أن تم تكليفه إدارة شؤون إدارة الكوارث الصحية والأمنية وليس في ذلك أي مخالفة للدستور. فلبنان الذي يمرّ بمرحلة اقتصادية ومالية استثنائية، كانت تستوجب تضافر الجهود من أجل تقليص انعكاساتها المدمرة بعيداً عن المناكفات والحسابات السياسية الضيقة، وعدم استغلال النكبة الاجتماعية والمعيشية التي أصابت اللبنانيين من أجل ضرب ما تبقى من الإدارات الرسمية الناجحة وتهميشها، بات يسلك مسارا واضحا منذ بدأت الدعوة إلى انعقاد المجلس الأعلى للدفاع بحجة إعلان حال الطوارئ والتي تمّ منحه بموجبها كافة الصلاحيات، علماً أن دوره الفعلي غير معني مباشرة بهذه المرحلة التي كانت تتطلب انعقاداً دورياً للهيئة العليا للإغاثة انطلاقاً لأن الوضع في لبنان يحتاج إلى إدارة المساعدات وإغاثة المحتاجين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تصريحات وزير الخارجية التي ستردع وصول المساعدات المالية والإنسانية من الخليج إلى هيئة الإغاثة تتقاطع بالتوازي مع توجيهات الرئاسة الأولى وإصرارها على تشريع انعقاد المجلس الأعلى للدفاع واستحضاره في ما لا شأن له فيه (مسؤول فقط عن تنفيذ السياسة الدفاعية كما يحددها مجلس الوزراء)، في حين أن تواجد الهيئة العليا للإغاثة هو تواجد مشروع ودستوري نصّ عليه القانون الصادر بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 22 تاريخ 18/3/1977 من أجل العمل على تأمين الإغاثة والمعونة الملحة والعاجلة للمواطنين المتضررين جراء الأزمات التي تعصف بلبنان.

وبالرجوع قليلاً إلى دور الهيئة العليا للإغاثة، لا بد من الإشارة إلى أن الهيئة تلقت على مدار أعوام عديدة هبات ومساعدات مالية وإنسانية من مختلف الدول الأجنبية والعربية، شهدت على توثيقها وتسجيلها وتوزيعها (سواء إدارات رسمية أو مجتمع مدني) وإخضاعها للقوانين الخاصة بها مع الالتزام بكافة الشروط والتعهدات المطلوبة، بناءً على الصلاحيات التي منحها إياها القانون وتحديداً المادة الثانية منه. فعملياً، يمكن القول إن هيئة الإغاثة هي بمثابة ترانزيت لكافة المساعدات والهبات التي تصل إلى لبنان، وهي هيئة تتواجد في جميع أنحاء دول العالم وإن بأسماء مختلفة وتتلقى الدعم الأكبر من الدولة بسبب الطابع الفوري لتنفيذ الأعمال المنوط بها ولا سيما أنها تتعاطى مع الأزمات والكوارث والأمور الإنسانية المستعجلة التي لا يمكن لها انتظار إجراء المناقصات من أجل تنفيذها. وبفضل نزاهتها وكفاءتها، منحت الهيئة – غير المحسوبة على أي جهة سياسية – عامل الثقة لكافة المانحين عبر آلية عملها التي تتسم بالشفافية واتباع القوانين المرعية الإجراء منعاً لأي شكوك تشوب عملية صرف الأموال وتوزيع المساعدات والهبات بين الجهات المعنية كافة. وقد تُرجمت هذه الثقة أفعالاً على الأرض في الكثير من الأزمات التي واجهها لبنان، على سبيل المثال لا الحصر إصرار ألمانيا على إرسال مستلزمات وأدوية طبية تراوح قيمتها ما بين الـ 4 و5 مليارات دولار عبر هيئة الإغاثة حصراً من أجل توزيعها تحت إشراف السفارة الألمانية ووزارة الصحة بين المستشفيات الحكومية التي أخذت على عاتقها معالجة مرضى الكورونا، إضافةً إلى سلسلة هبات ومساعدات خليجية، منها الهبة المالية السعودية والأسطول السعودي والقطري والمساعدات الإماراتية والكويتية والعمانية وغيرها الكثير التي ساندت اللبنانيين في أزماتهم.

إلا أنه وفي السنوات الأخيرة، ومع اشتداد انعدام الثقة بين المجتمعين العربي والدولي ولبنان بسبب سوء إدارة المساعدات وهدرها وغياب الشفافية والمساءلة، توقف تدفق إرسال المساعدات إلى الجهات الرسمية، وأصبح التوجه إلى المجتمع المدني عبر جمعياته، التي حلّت مكان الدولة بعد أن أعطى لبنان الدول المانحة هذا الخيار على طبق من فضة بفضل السياسات اللامسؤولة ولا سيما بعد انفجار 4 آب. وإن كان عزوف بعض دول الخليج عن إيصال المساعدات لها ومنحها في المقابل للجمعيات عبر السفارات، فذلك يعود إلى فقدان الثقة بلبنان بفضل ساسته الذين أعطوا صورة غير لائقة عنه وعن كيفية إدارته للأموال التي تصل إليه.

في الأزمات، غالباً ما يحرص المسؤولون في مختلف الدول على عدم نشر الإساءات أو التصريح بأي كلام يعرض مصالح بلادهم للخطر، إلا أن هذه القاعدة لا تنطبق على مسؤولي لبنان الذين يقع على عاتقهم لعب دورٍ هامٍ في المحافظة على علاقاته الخارجية وعكس صورة جيدة للبنان أمام الدول المانحة (العربية والدولية) التي ساندت لبنان في أسوأ ظروفه، لتفتح بذلك أزمة العلاقات اللبنانية – الخليجية فصلاً جديداً من فصول إدخال المساعدات الإنسانية في بازار الابتزاز السياسي المفتعل، تماماً كما حصل عام 2019 عندما أشعلت تصريحات رئيس الجمهورية عن الحقبة العثمانية أزمة ديبلوماسية بين لبنان وتركيا، علماً أن توقف مثل هذه المساعدات في هكذا توقيت سيُحتّم على اللبنانيين المزيد من التدهور والتقهقر المعيشي وسيؤثر سلباً في سير عمل هيئة الإغاثة التي ستفتقد داعماً رئيسياً شكّل على مدى أعوام طويلة ثقلاً في حجم ونوعية المساعدات الإنسانية.

وهنا يبقى السؤال، لمصلحة من يُراد القضاء على آخر معاقل الثقة داخلياً وخارجياً وضرب ما تبقى من سمعة إدارات وهيئات الدولة الرسمية، وما هي الغاية من التضحية بالعمل الإنساني والإغاثي واللجوء إلى افتعال الأزمات وتوسيع دور المجلس الأعلى للدفاع وتحويله إلى أداة سياسية على حساب الوصي الفعلي والمسؤول المباشر عن إدارة الأزمة اليوم والمتمثلة في الهيئة العليا للإغاثة حصراً؟ سؤالاً مشروعاً لحين الحصول على جواب إما يدحض هذه الشبهات أو يؤكدها.

شارك المقال