استقال قرداحي… على من تضحكون؟

أنطوني جعجع

من يظن أن استقالة جورح قرداحي ستجترح المعجزات هو واهم ربما، ومن يظن أنها سترضي الخليج وتعوم إيران هو واهمٌ حكماً.

قرداحي نفسه يعرف أن ما اقدم عليه ليس سوى قنبلة صوتية، و”حزب الله” نفسه يعرف ان الاستقالة التي كانت “عاراً” في الامس قبل ان تصبح “مكرمة” اليوم، ليست الا اشارة واهية او ربما مناورة مكشوفة، مدركاً أن ما بينه وبين اهل الخليج ليست الا مسافة لن يتمكن من قطعها بقطع رأس وزير أرعن، وان ما فعله، انطلاقاً من اليمن، لن يُمحى بخطوة ناقصة ومحدودة في المكان والزمان …

ثمة أمر لا يقرّ به المسؤولون اللبنانيون، او معظمهم على الأقل، وهو أن حكام الخليج باتوا يفصلون بين الشهامة العربية والمصالح القومية، وان ما كان يجوز في الامس من تسامح واستيعاب واحتواء، لم يعد جائزاً اليوم، في وقت وصلت النار الى العمق الخليجي من حرائق قريبة يغذيها “حزب الله” المتربع على القرار اللبناني بكل تفاصيله ومندرجاته، والغارق حتى أذنيه في الاستراتيجية الايرانية من دون اي اعتبار لجذوره العربية أو حتى جذوره اللبنانية.

وثمة أمر آخر يتمثل في أن الدولة اللبنانية بعد “اتفاق مار مخايل” بين الجنرال وقتذاك ميشال عون وحسن نصرالله، حل ضمناً محل اتفاق الطائف وانتقل من مبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين الى مبدأ الشراكة الكاملة بين “حزب الله” والتيار الوطني الحر، على ان يكون الآخرون اإما “تشكيلة” ديموقراطية تحفظ ماء الوجه، أو شركاء بلا مخالب ولا انياب …

وما ينطبق على الشرق العربي ينطبق ايضا على العالم الغربي الذي تغير أيضا في شكل حازم، وبات لبنان بالنسبة اليه، بلد الصواريخ والمتفجرات والاغتيالات والخلايا التي تهدد عدداً يعتد به من دول اوروبا واميركا الجنوبية وافريقيا وآسيا وصولاً الى أستراليا التي تحولت الى أحدث دولة تضع “حزب الله” في خانة المنظمات الارهابية…

في اختصار، يمكن القول إن الحكم في لبنان تحول الى “كذبة” لم تعد تمر على احد، وان ما كان يتسلح به الموفدون في اتجاه الاليزيه والكونغرس وعواصم الخليج، من مبررات التعايش الصعب والمعقد في لبنان، لم يعد سلاحاً مقبولاً في اي شكل من الاشكال، خصوصاً بعدما تراجع قسم من المسيحيين لاسباب مختلفة، وتحول قسم آخر الى شريك مباشر او غير مباشر في استراتيجية “حزب الله”، وبعدما انحسر الغطاء الخليجي للسنة في لبنان، وتراجع دروز وليد جنبلاط الى المقاعد الخلفية، مما كشف لبنان امام الجميع كمقر للارهاب من جهة وككيان ايديولوجي جديد ينقله من وطن الرسالة الى وطن الإمامة…

وفي عودة الى استقالة القرداحي، يرى مراقبون في منطقة الخليج أنها تؤشر الى أمرين:

– اقرار الحكم و”حزب الله” بأن الحصار الخليجي الخانق، تحول الى كرة ثلج لا بد ان تنفجر في وجههما خلال الانتخابات النيابية المقبلة.

– اقرار ايران، في ظل الحصار الذي تعانيه على طاولة المفاوضات الصعبة في فيينا، بأن سياسة المعاندة والمكابرة، يجب ان تنقلب الى سياسة المناورة والتراضي، على ان تبدأ من تحت الى فوق، اي من الاوراق الصغيرة كورقة جورج قرداحي، الى الاوراق الكبيرة كورقة البرنامج النووي والصواريخ البالستية.

وهنا لا بد من سؤال: هل نجحت او هل يمكن ان تنجح الاستقالة الاستعراضية المتأخرة في كسر جبل الجليد بين لبنان والخليج؟

طبعاً لا، وجلّ ما سجل في هذا السياق، كان نقطة ايجابية في حملة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون المتهالك للحصول على انجازات خارجية تغطي الخيبات الداخلية، وكان خطوة سعودية ذكية حاولت بها استرضاء حليف غربي قوي، يحل محل الانسحابات العسكرية الاميركية من العراق وسوريا وافغانستان والانصراف الى مواجهة الروس في البحر الأسود وعلى الحدود الأوكرانية، والصينيين قبالة تايوان وبحر الصين.

شيء واحد ايجابي يمكن الاضاءة عليه، وهو الاتصال الهاتفي المشترك بين ماكرون وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي، وهو الاتصال الذي أنهى القطيعة الكلامية من دون ان ينهي القطيعة العملية، وأعاد الى حد ما الحرارة الى العلاقة الملتبسة بين الرياض واحد اركان السنة في لبنان عشية انتخابات نيابية حاسمة ومفصلية قد يتوقف على نتائجها مستقبل لبنان الآخر، وهي الحرارة التي ربطتها الرياض بسبحة شروط تشد على ايدي المعارضة وتشد الخناق على “حزب الله” وتضع المنظومة الحاكمة امام تحديات صعبة…

ويشدد المراقبون على ان استقالة قرداحي شكلت نقطة باردة فوق الصفيح السعودي الساخن، فيما المطلوب ليس مبادرة من “حزب الله” في بيروت بل مبادرة منه في اليمن، ومبادرات من ايران تعيد ترتيب الشرق الاوسط على اسس جديدة تعيد الثورة الاسلامية الايرانية الى رشدها بعيداً من التوسع والانفلاش.

ويرى المراقبون انفسهم ان حكام الخليج يعرفون انهم يتعاملون الآن مع رئيس لبناني ضعيف لا يملك ترف الوقت ولا حرية القرار، ومع دولة مشلولة لا تجرؤ على تحدي “حزب الله” ولا تقدر على لجمه، مؤكدين انهم اتخذوا قرار التريث والمهادنة في انتظار ما ستسفر عنه مفاوضات فيينا وما يختاره الناخبون اللبنانيون بعد بضعة اشهر.

أما السؤال الاهم على المستوى اللبناني، فهو “الجائزة” التي يمكن ان يحصل عليها “حزب الله” بعد اطلاق الضوء الأخضر لترحيل قرداحي، فهل تكون رأس طارق البيطار ام تكون المساهمة في تكريس سياسة الفراغ من خلال تأجيل الانتخابات النيابية المقبلة ما دام لا يضمن فيها الحصول على الغالبية التي يريد بها رئيساً آخر من طينة ميشال عون.

الواضح ان “حزب الله” يلعب ببراعة على وتر الانانيات والطموحات المارونية والسنية معاً، فاعطى ميقاتي ما يمكن ان يساعده على الحد من الحريرية السياسية التي تستعد لاستعادة زخم 14 آذار، وحول سليمان فرنجية من خلال التخلي عن وزيره، الى حيثية مقبولة عربياً، ووضع التيار الوطني الحر الذي يحاول التملص من ضغط “حزب الله” على الواقع اللبناني، أمام واحد من ثلاثة خيارات:

إما اطاحة البيطار، وإما تأجيل الانتخابات، أو التعايش مع حكومة لا تلتئم ولا تنفضّ الا باشارة من إصبعه، وهي خيارات أحلاها خسارة الغالبية المسيحية وأمرّها الخروج من قصر بعبدا الى الابد.

ما يجهله عون وباسيل، ويعرفه الشرق والغرب معاً، أن “حزب الله” ليس جمعية خيرية، وان قرداحي بالنسبة اليه كان مجرد ورقة، وان ميقاتي يحمل طموحات الزعامة وليس مقوماتها، وان باسيل مجرد فتى متهور، وان عون مجرد مديون لا مهمة لديه تتعدى سداد الديون، ومجرد طامح أراد ذات يوم ان يكون رئيساً لا شهيداً.

شارك المقال