اليوم العالمي لحقوق الإنسان!

اكرم البني
اكرم البني

محفوفة بالمزيد من الانتهاكات البغيضة لحقوق الإنسان العربي، مرت الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في العاشر من الشهر الجاري، والأمر لا يتعلق فقط بمظاهر الاعتقال والإذلال والتمييز التي ما فتئت تتّسع وتشتد، أو بتفاقم حالة الحرمان والعوز والتشرد، أو بأجواء العنف والقتل التي تروّعنا يومياً، إنما الأهم بسلبية بغيضة تجاه حقوق الإنسان بدأت تتنامى في أوساط المجتمع الدولي وتجعله عاجزاً عن أداء واجبه في ردع أعدائها وعن لعب دوره المفترض في حماية هذه الحقوق ونشرها لتثبت وترسخ وتحتل المكانة التي تليق بها، كقيمة طبيعية وحيوية من قيم الذات البشرية.

في ما مضى، وبعد خمود الاستقطابات الحادّة التي لازمت الحرب الباردة، وبدء الترويج الأميركي لمشروع نشر الديموقراطية رداً على تفجيرات أيلول 2001، بدا أنّ حقوق الإنسان تتقدّم كعامل ناجع في ضمان استقرار المجتمعات وتنمية قدراتها ومحاصرة نزعات التطرّف والتعصّب، مما ساهم في شيوع الأفكار الديموقراطية وتنامي حسٍّ إنساني عالمي يأنف العنف ويدعو لاعتماد المعايير المشتركة لحقوق الإنسان في محاكمة شرعية الأنظمة وأساليب الصراع السياسي.

لكن هذا التطوّر الحضاري تلقّى قبل أن ينضج أو يستقر، صفعة قوية. وقد نجحت عقلية القوة والغلبة في جر البشرية إلى ماضيها المؤلم، إلى العنف والحروب، وإلى المناخات التي تسوغ ازدراء حياة الإنسان والاستهتار بحقوقه. عزز هذه الصفعة، العودة لتغليب الخيار الأمني في مواجهة الإرهاب الاسلاموي والانخراط الدولي في حرب جماعية للنيل منه وإن كانت على حساب حيوات البشر وحقوقهم، ثم تقدّم نزعات شعبوية وعنصرية في البلدان الغربية يحدوها نخب تتغنّى بفرادة مجتمعاتها، لتبرر تخليها عن دورها وواجبها الأمميين في حماية البشر من الانتهاكات التي يتعرّضون لها.

وأيضاً في ما مضى، كان أمراً خطيراً ومؤذياً لمبادئ حقوق الإنسان توظيفها انتقائياً، إذ ضُخِّمت بعض الانتهاكات وغُضَّ الطرف عن أخرى، لغايات ومصالح سياسية، لكن الأخطر اليوم، هو التخلّي عن حقيقة تقول، أنّ الديكتاتورية والتخلف والفساد هي مرتع الإرهاب، وأنّ دعم الديموقراطية والحريات السياسية وتنمية المجتمعات اقتصادياً وتعليمياً هو الخيار المجدي لتجفيف منابعه وسحب البساط من تحت أقدام قوى التعصّب والتطرّف، والأكثر خطورة تنامي مزاعم التمييز بين المجتمعات والطعن بفرص بعضها في الارتقاء الحضاري كذريعة للتنصل من الالتزام بشرعة حقوق الإنسان التي يتعيّن أن يتمتع بها البشر كافة، بغض النظر عن أصولهم وقومياتهم وأديانهم وأجناسهم ومعتقداتهم.

تعزّزت هذه التحوّلات عربياً، بعودة مريعة للعقلية الإيديولوجية الوصائية، وانتعاش الثقافة المشوهة التي دأبت على خلق تعارض مستحكم بين حقوق الإنسان وبين المرجعيات الإيديولوجية والسياسية، بما هو انتعاش للحجج والذرائع المُغرضة التي ابتكرتها وروّجت لها السلطات المستبدّة، لتسويغ حرمان الناس من حقوقهم.

والحال، أفضت الحصيلة المخيّبة للآمال، وطنياً وحقوقياً وتنموياً، للإيديولوجيتين القومية والاشتراكية اللتين قادتا مجتمعاتنا، إلى منح الخيار الإيديولوجي والسياسي الديني فرصة تاريخية لتجريب حظّه، مدعوماً بقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وهو الخيار الذي يتناقض بنيوياً مع شرعة حقوق الإنسان ما دامت تمكّن البشر من تقرير مصائرهم وتمنحهم الحرية في اختيار معتقداتهم وما يؤمنون به.

والأمر لم يتجلَّ فقط بتنامي نفوذ الإسلام السياسي السنّي أو الجماعات الجهادية، كتنظيم “داعش” وجماعة “القاعدة”، المعادين للحرية والديموقراطية، وإنما أيضاً بالحضور والنفوذ المتماديين لوجهه الشيعي، إذ انتشرت ميليشياته المتعصّبة العابرة للأوطان، من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان، مبيحة من أجل نصرة مشروعها المذهبي، حيوات الناس المختلفين مذهبياً وحقوقهم ومصائرهم!

زاد طين التحوّلات المناهضة لحقوق الإنسان بلة، عدم استثمار الفرصة التي سنحت لنشر ثقافة حقوق الإنسان وترسيخها في مجتمعاتنا، مرة أولى، من المنظمات الحقوقية التي تعي أكثر من غيرها دور المصالح والأغراض السياسية في الموقف من حقوق الإنسان، إذ لم تبذل جهداً استباقياً لتمكين الجمعيات المدنية والتيارات الديموقراطية، أو لتسخير تطوّر وسائل التواصل والتفاعل من أجل التأسيس لما يشبه شبكة عالمية واسعة تنادي بواجب تطبيق المعايير المشتركة لحقوق الإنسان وتطالب بمحاصرة وردع كل من ينتهكها. ومرة ثانية، من المعارضات السياسية، التي انزلقت في غالبيتها وراء الحسابات الآنية ولعبة توازنات القوى وأحجمت عن إحداث فك ارتباط مع أفكار الماضي وتصوّراته، وعن الإفادة من نقد الذات والعقليات الإيديولوجية، للتأكيد أنّ السبب الرئيسي لحالة الضعف والتفكك التي أصابت المجتمعات العربية هو الاستمرار في تهميش الإنسان وتغييب دوره، بما هو تأكيد على الترابط الوثيق بين نصرة الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وبين استقرار الحياة السياسية ونجاح التنمية الاجتماعية والاقتصادية والارتقاء الحضاري.

أخيراً، إذ نعترف بأنّ الإصرار على التمسّك بقيم حقوق الإنسان والتذكير باليوم العالمي لإعلانها، قد يثير عند الكثيرين السخرية في ظل ما يكابده الإنسان العربي من انتهاكات مروّعة. ونعترف تالياً بأنّ أعداء الحرية وحقوق الانسان نجحوا عبر توسّل أشد وسائل العنف والتنكيل وشحن الغرائز الطائفية، في تثبيت ركائز الاستبداد والفساد وسحق حلم الناس البسطاء بالتغيير الديموقراطي، فلا بد أن نعترف أيضاً، بأن شعوبنا العربية ما كانت لتصل إلى الدرك الذي آلت إليه لولا تغييب حقوق الإنسان والتهميش المزمن لدور البشر في حماية المجتمع من التمييز والعنف، مما يعني أنّ إشهار الذكرى السنوية لحقوق الإنسان وإعلاء مبادئها ونشر ثقافتها، ضرورة تزداد إلحاحاً كلما ازدادت على شعوبنا شدّة المحن والنكبات والانتهاكات، لأنها أولاً عنوان للحقيقة التي من دونها يصعب مواجهة منطق القهر والغلبة وفضح استسهال إذلال الإنسان وامتهان كرامته وتدمير المجتمعات ومستقبل أجيالها لإدامة التسلّط والامتيازات، وثانياً لأنها تشكل الاعتراض المشروع على تراجع الاهتمام الأممي بحقوق الإنسان وتفضح التحوّل عنها جراء تغوّل المصالح الأنانية والضيقة وتنامي النزعات الشعبوية والعنصرية، وثالثاً لأنّ مبادئها وقيمها تزرع الأمل في قلوب ملايين العرب المقهورين الذين يريدون الخلاص من هذا الانحطاط ويبحثون عن غد أفضل لأوطانهم وأبنائهم.

شارك المقال