تسلّم ميشال عون دفّة قيادة البلد بعدما انتخب رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016، صحيح أن كل القطاعات كانت مرهقة وادارتها غير سليمة، إلا أن الوضع كان مقبولاً، وكان يتوفّر فيها الحد الأدنى من المقوّمات لتؤمن مستلزمات العيش، أما اليوم فتبدو كل القطاعات منهارة بل تلفظ أنفاسها الأخيرة، فماذا حصل؟
لا يختلف اثنان على أن الرئيس عون وصل إلى الحكم بعد عامين متواليين من التعطيل، مارسها تكتله النيابي و”حزب الله” للضغط على القوى السيادية بهدف انتخابه رئيساً للجمهورية وفق مقولة “عون أو لا أحد”، معتبراً ان الرئيس يجب ان يكون تمثيله واسعاً والأقوى في طائفته!
صمد تيار المستقبل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي حتى عام 2016، قبل أن يرتأوا كسر الحصار بتسوية أو ربط نزاع مع “الحزب” توّجت بانتخاب عون رئيساً، واعطاء لبنان فرصة سياسية تجلب الاستقرار بدلاً من الفراغ القاتل. والمفارقة ان عون خلال خطاب القسم أمام مجلس النواب تعهّد أن يبقي لبنان بعيداً عن نيران النزاعات المشتعلة في المنطقة، مؤكداً عزمه على إطلاق خطة اقتصادية تغير المسار المتدهور!
توفّر كل شيء لعون، وتحقق الحلم فأصبح رئيساً، وبعد عامين، ربح تياره الانتخابات النيابية حائزاً على 29 مقعداً نيابياً، اضافة إلى أكثرية نيابية شكّلها مع حليفه “حزب الله”، كما نال مقاعد وزارية كافية وتعيينات للقادة الأمنيين ووظائف الفئة الأولى، وربما ما حظي به عون لم يحظ به أي رئيس جمهورية سابق، ومع ذلك لم نسمع منذ ستة أعوام وحتى اليوم إلا عبارة “ما خلّونا”.
ليس هناك اسرار وألغاز في أسباب فشل عهد عون، فهو منذ بداية العهد استسلم إلى أمرين: أولاً، أوكل ادارة العهد لصهره جبران باسيل، فكان رئيس الظل، وانشغل في عملية توريثه الرئاسة، وكانت كل مواقفه ومقايضاته وقراراته تصب في هذا الإطار. ثانياً، استسلم لإرادة حزب الله ومرجعيتها ايران، مما تسبّب بعزلة عربية ودولية للبنان، عجّلت في عملية انهياره، فأصاب الاهتراء كل القطاعات من دون استثناء، فغابت الدولة وخصوصاً أن الرئيس كبّل نفسه بسلاسل حديدية، بعضها لصهره الذي خاصم كل القوى السياسية وأعطى الأولوية لمصالحه الخاصة، وبعضها الآخر لحزب الله الآمر الناهي في السياسة الخارجية والدفاعية وقرار الحرب والسلم.
أما نظريات الرئيس عون ومسؤولي التيار الوطني الحر أن هناك مؤامرة كونية ضد العهد، فلم تعد تمر على أحد، لأن عون بدأ عهده بتفاهمات مع الجميع، وسرعان ما نسفها باسيل تدريجياً، وما بقي إلا الثنائي الشيعي الذي كان يعرف عون وباسيل منذ البداية أن لا اصلاح ولا مقومات بناء دولة معه، مع ذلك يصران حتى اليوم على التنازل أمام “حزب الله” في القضايا الاستراتيجية الكبيرة كالمقاومة والممانعة وقرار الحرب والسلم، ولا يرفعا الصوت إلا عند الاختلاف معه على الأمور التكتيكية والقضايا الثانوية.
يا تُرى ما الذي حصل في القطاعات الحيوية فانهارت على نحو شامل وكارثيّ في هذا العهد؟
قطاع الكهرباء
لم يكن قطاع الكهرباء يوماً نموذجياً في لبنان، لكن الدرك الذي انحدر اليه مؤخراً لم يسبق أن وصل اليه سابقاً حتى في ذروة أيام الحرب، ومنذ اتفاق الطائف حتى اليوم تعاقب 16 وزيراً على وزارة الطاقة، بينهم 6 وزراء محسوبين على “التيار الوطني الحر” أي حزب الرئيس، وقد اعتمد هؤلاء سياسة كهربائية كبّدت الدولة سنوياً نحو ملياري دولار عجزاً للكهرباء، نتيجة إرهاق المؤسسة بكلفة البواخر، ومقدمي الخدمات، والاعتماد على شركات الصيانة وتشغيل المعامل، مما نتج منه استنزاف ماليتها، فكلّفت على مدار 10 سنوات نحو 20 مليار دولار ضاعفت عجز خزينة الدولة فـانهارت مالية الدولة وأفلست كهرباء لبنان، ولو ذهب البلد إلى استعمال الغاز لوفر 400 مليون دولار سنويا!
ليس بعيدا اليوم الذي ستنكشف فيه الحقيقة. ليس بعيداً اليوم الذي سيعرف فيه اللبنانيون لماذا رفض جبران باسيل عرض الصندوق الكويتي في ما يخصّ الكهرباء، على الرغم من أنّه عرض مغر ولمصلحة الخزينة اللبنانية إلى أبعد حدود. يُفترض في اللبنانيين أيضا معرفة لماذا كان الاعتراض على تولي شركة “سيمنز” الألمانية ملفّ الكهرباء في لبنان وقد أتى رئيس الشركة إلى بيروت برفقة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في زيارتها للعاصمة اللبنانية في حزيران 2018.
قطاع الاتصالات
لا شك أن انهيار قطاع الكهرباء أثّر في قطاع الاتصالات الذي شارف على الانهيار أيضاً، والخطر الداهم ممكن أن يؤدي إلى العودة إلى المرحلة السابقة لاختراع شبكة الإنترنت، حيث تجتمع مجموعة عوامل وتفاصيل لتنتج مشكلة كبرى، بدءاً بأزمة سعر الدولار المتفلت من عقاله، مروراً بارتفاع سعر المازوت، وصولاً إلى ضعف مداخيل الشركات، وبالتالي عدم القدرة على تطوير الشبكة أو ملاقاة تقنيات الجيل الخامس.
القطاع المالي
مارس الرئيس عون وحليفه “حزب الله” سياسة تابعة لمحور المقاومة والممانعة الذي تقوده ايران مما أغضب المجتمع الدولي والعربي، ففُقِدت الثقة بالدولة اللبنانية، مما أوقف تدفقات النقد الأجنبي الى الداخل وخرج الدولار من لبنان، واندلعت ثورة شعبية لم تستطع اسقاط السلطة اللبنانية التي اتبعت معادلة “السلاح يحمي الفساد”. ولم يعد لدى المصارف ما يكفي من الدولارات للدفع للمودعين المصطفين خارجها، فأغلقت أبوابها. وانهارت العملة، إذ تراجعت من 1500 ليرة مقابل الدولار إلى نحو 27 ألفاً في السوق السوداء اليوم. وفاقم من المشكلات، الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وقد سبّب خسائر بمليارات الدولارات.
ومع استئناف المصارف فتح أبوابها من دون اعتماد السلطات العامة أي قوانين استثنائية لمراقبة رأس المال، وهو من أساسيات إدارة الأزمة المالية، نجح بعض أصحاب النفوذ المرتبطين بالنخبة الحاكمة في سحب كامل مدخراتهم أو جزء منها، على الرغم من تعميم القيود بشكل عام منذ خريف عام 2019، بينما حُرم أغلب المواطنين اللبنانيين من الحصول على أموالهم المودعة في المصارف.
وقد سُمح للمودعين بسحب بعض ودائعهم بالدولار، بحد أقصى شهري يختلف باختلاف المصارف، شرط تحويله إلى الليرة اللبنانية بسعر يحدده البنك المركزي. كل ذلك ترافق مع انهيار تاريخي وغير مسبوق لليرة اللبنانية، من دون أن يجرؤ الرئيس عون على نقل لبنان من الخضوع لمحور يتخبط بالنزاعات والحروب، إلى الحياد الذي يضمن للبنان استقرارا سياسيا واقتصاديا.
قطاع الاستشفاء
الأسباب كثيرة لما آلت إليه الحال في قطاع الاستشفاء، لكن ما يجمعها كلها الأزمة الاقتصادية – المالية التي تتمدّد كخلايا سرطانية. إذ انسحب انهيار القدرة الشرائية لليرة على كل ما يخصّ هذا القطاع، سواء ما يتعلق بأسعار المستلزمات والمعدات الطبية التي بات معظمها يسعّر بالدولار أو بليرة السوق الموازية، أو ما يتعلق بفوارق فواتير الاستشفاء بين تعرفة الصناديق الضامنة وتعرفة الخدمات الطبية في المستشفيات.
عملياً، دخل القطاع الصحي الاستشفائي المرحلة الثانية من الانهيار: لا مستلزمات طبية. لا محروقات. لا مخزون لكل من هذه المتطلبات يكفي لمواجهة أي أزمة حادّة على شاكلة انفجارٍ ما أو عودة أزمة “كورونا”. يضاف إلى تلك اللائحة التي تُبعد القطاع الاستشفائي عن مواصفات ما كان عليه يوماً كـ”مستشفى الشرق الأوسط”، الهجرة المستمرة للأطباء والممرضات والممرضين مما أدى إلى إلغاء عدد من الخدمات الطبية وصولاً إلى إقفال أقسامٍ علاجية بحالها في بعض المستشفيات.
قطاع التربية
الانهيار الاقتصادي الذي حلّ في لبنان في عهد الرئيس ميشال عون أرخى بظلاله على التعليم والمدارس على نحو مقلق، فأضحى الاستمرار في تقديم الجودة عينها مهدداً، خصوصاً مع انهيار سعر الصرف وفقدان الليرة اللبنانية نحو مئة بالمئة من قيمتها.
أصبحت المدارس أمام خيارين، إما رفع الأقساط بنسبة عالية، وبالتالي رفع رواتب الأساتذة والعاملين لديها، وهذا ما يجعل عدداً كبيراً من اللبنانيين لا يستطيعون إكمال تعليمهم في هذه المؤسسات، وبالتالي يجعلها تخسر طلابها وسبب وجودها، أو الاستمرار بقبض الأقساط من دون تغيير وأيضاً من دون تغيير في رواتب الأساتذة مما يدفعهم إلى هجرتها، وعدم تمكنها من استقطاب أساتذة جدد بالمستوى الأكاديمي عينه للحفاظ على جودة التعليم برواتب منخفضة.
واللافت أنه سجّلت هجرة كبيرة للمعلمين، وبالتالي دفع التلامذة الثمن بسبب النقص في الطاقات. كذلك، سجّلت هجرة للتلامذة من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية من دون أن يكون لديها الامكانات لاستيعاب هذا العدد الكبير!
خطر الانهيار يداهم الجيش والقوى الأمنية
تفيد بعض المصادر أن عدد الفارّين من الخدمة في الجيش اللبناني تجاوز عتبة الخمسة آلاف بين ضابط وعسكري، بينما لامس العدد 500 في قوى الأمن الداخلي وتجاوز العشرات في بقية الأجهزة الأمنية.
وتبدو هذه الأرقام مرشحة للارتفاع، في وقت تزداد فيه المخاوف من انهيار كبير للمؤسسة العسكرية والأمنية في حال قررت الحكومة اللبنانية السماح بتسريح العسكريين من الخدمة للتخفيف من الضغط على المصاريف الحكومية الشحيحة.
ويتنامى الاستياء في صفوف الجيش اللبناني بسبب انهيار العملة الذي أدى إلى إلغاء أغلب قيمة رواتبهم. ويفرض الانهيار الاقتصادي ضغوطاً غير مسبوقة على القدرات العملياتية للجيش، مما يؤدي إلى القضاء على قيمة رواتب الجنود وتحطيم معنوياتهم. ويعرّض هذا التدهور المؤسسة العسكرية للخطر علماً أنها المؤسسة الوحيدة التي توحّد اللبنانيين. هذا الأمر، دفع قائد الجيش العماد جوزف عون إلى زيارة الولايات المتحدة لطلب المساعدة.
ختاماً، إذا استمر الوضع على هذا النحو من التعطيل الذي يمارسه الثنائي الشيعي ومقايضات العهد لتعويم جبران باسيل، وممارسة الكيدية السياسية من دون معالجات جذرية، سنشهد انهياراً شاملاً لكل القطاعات، وحالة خطيرة من الفراغ وارتفاعا هائلا في اسعار المواد الأولية كالمحروقات والدواء والخبز والمواد الغذائية والمستلزمات الطبية. كما يتوقّع زيادة في أسعار الاتصالات ورفع الدولار الجمركي، كل ذلك يحصل في عهد رئيس يبني خطابه على انه الوحيد على حق وانه مستهدف، وان كل ما يجري في لبنان انما يحدث لاستهدافه، فيما الحقيقة انه هو عطّل نفسه بنفسه وهو اختار حلفاؤه الذين يمارسون التعطيل اليوم، وكل هذا التعطيل المتبادل هو عملية ابتزاز واضحة تمارسها التكتلات السياسية التي تشكّل الأكثرية النيابية من اجل فرض معادلتها وقوامها، اما السير بما تريد فرضه واما البقاء في حالة التعطيل والشلل والازمات.