وحده لبنان “المفدرل” يشبه “لبنان” جبران باسيل ونعيم قاسم

عبدالوهاب بدرخان

كلّما تأكّد “حزب إيران/حزب الله” من هبوط شعبيته لدى مختلف الطوائف، كلّما زاد منسوب الوقاحة والإسفاف في المداخلات الإعلامية لأبواقه، أيّا يكن مستواها التنظيمي. استخدم “الحزب” سلاحه وفرض أمراً واقعاً بالاغتيالات والترهيب واستباحة بيروت، ويجد الآن أن هذا الأمر الواقع ينزلق من بين أصابعه، أو أنه على الأقل لن يتحوّل الى واقع يمكن أن يتعايش معه اللبنانيون خوفاً أو رضوخاً. بالغ “الحزب” في التخويف والقهر، خصوصاً منذ “ثورة 17 تشرين”، لأنه استنتج ضرورة تطويع الشعب، بعدما اطمأن الى تطويع السياسيين. انتهى، عملياً، الى تقليد النموذج الإسرائيلي الذي أعرب مراراً عن ضيقه بمواقف الشعوب العربية حتى عندما تكون الحكومات طبّعت علاقاتها معه. ولا جديد في هذا التقليد، إذ سبق أن طبّقه الإيرانيون والنظام السوري، مستعينَين بالميليشيا اللبنانية (بالاسم، لا بالانتماء)، فصاروا جميعاً مع قدوتهم وصنوهم الاسرائيلي “قوى احتلال” و”سلطات احتلال”.

لم يكن نعيم قاسم، السياسي المتفرّغ لعمله الحزبي، وحده مَن ارتكب أخيراً زلّة لسان ارتدّت عليه وعلى “حزبه”، بعدما دعا اللبنانيين الى الالتحاق بـ “لبنانه” أو الى إيجاد حلٍّ آخر، أي المغادرة. سبقه الى ذلك حسن نصر الله الذي هدّد “القوات اللبنانية” بمئة ألف مقاتل فزاد من شعبيتها في بيئتها ومختلف “البيئات”. وهناك أيضاً هاشم صفي الدين و”خبير القبع” وفيق صفا وحتى العائد من الصقيع غالب أبو زينب، وآخرون غيرهم. يريدون جميعاً كيّ وعي اللبنانيين، للحصول على اعتراف منهم بأن لبنان بات يعني “الحزب”، وأن العكس صحيح. لا بأس، فليأخذوا الاعتراف بكل الأساليب الاستبدادية التي يتقنونها. ثم ماذا؟ هل يريدون أن يسيطروا على البلد، أن يديروا شؤونه، أن يحكموه، لكن ماذا عن اليوم التالي؟ هل يستطيعون أن يحلّوا كمّ الأزمات التي أغرقوا البلد فيها فيما هم يقاومون اليوم كل محاولة لإخراجه منها؟

هنا أيضاً يحاولون استيحاء نموذجهم الإسرائيلي الذي يحاذر اسقاط السلطة الفلسطينية، كذلك سلطة “حماس” في غزّة، تجنّباً للعودة الى وضعية الاحتلال الشامل المسؤول عن كل شؤون شعب تحت الاحتلال، على الرغم من أنه يرغب جداً في اسقاط هذه السلطة وتلك والخلاص منهما لمجرّد أنهما تذكّرانه باستمرار بالكلمة التي تؤرقه، الاحتلال، وبضرورة زواله. كل عمليات التطبيع لم تتمكّن من إلغاء “الاحتلال” من أذهان الفلسطينيين والعرب ومصطلحاتهم البديهية، ولا حتى من القرارات الدولية. وعلى طريقة الإسرائيليين، تقتصر حاجة الإيرانيين (والروس) الى بشار الأسد ونظامه لتكريس احتلالهم، وينطبق الأمر على حاجتهم الى الميليشيات في العراق واليمن ولبنان وغزّة، أما الشعوب فباتوا يعرفون أنها، كالشعب الإيراني، وكالشعب الفلسطيني، تضيق ذرعاً بمن يعاملها كسلطة احتلال، يتساوى في ذلك أن يكون عدواً خارجياً أو ميليشيا محلية ذات نشاط اقليمي.

هناك مَن ينصح بمحاورة “حزب إيران/حزب الله” في لبنان، بل هناك مَن لا يزال يدعو الى ذلك كخيار أخير ومن قبيل الحرص على التعايش الوطني المشترك. ويعلم الناصحون والداعون أن حوارات حصلت، وآخرها ما انبثق منه “اعلان بعبدا”، ولم يلتزم “الحزب” مخرجاتها، لأنها ببساطة لا تتطابق مع أجندته و”واجباته” الإيرانية. لذا فهو يتعامل معها على أنها مجرد أدوات لإدارة طواحين الكلام ولإلهاء اللبنانيين، إذ يقال أن توقيع “الحزب” على هذه الوثيقة أو تلك يضفي عليها أهمية خاصة أو يمحضها “مصداقية”، لكن “الحزب” يتعامل بسخرية مع محاولات كهذه فيما هو يواصل مهماته “الجهادية” تاركاً سائر اللبنانيين، بمن فيهم بيئته الحاضنة، يفهمون تدريجياً أنه في وادٍ و”الهمّ الوطني” في وادٍ آخر.

يعتبر “الحزب” أنه “كبر” على مثل هذه الألاعيب، وعلى قيمٍ ومبادئ لا يؤمن بها، ولم يعد راغباً في التظاهر بقبولها. بل يعتقد أن الآخرين، الضعفاء الهزيلين الذين يتولّى ادارتهم، هم الذين يحتاجون الى “أوراق توت” كهذه لتغطية عوراتهم تجاه طوائفهم ومراجعهم الخارجية، أما “الورقة” التي يريد جرّهم الى توقيعها فهي تلك التي تضفي “شرعية” كاملة على نهجه وحروبه الخارجية وولائه لإيران ومشروعها ووليّها الفقيه. ليس “الحزب” من يحاور الذين يعملون في خدمته ليقف على هواجسهم، بل انه يضع أمامهم خيار “المؤتمر التأسيسي” ليغيّر النظام وينسف “اتفاق الطائف” أو ليُجهِز نهائياً على ركائز الوفاق الوطني الذي توصّل إليه. بات كثيرون يستسهلون القول إن “الصيغة” التي تبلورت في الطائف “لم تعد صالحة”، ولا شك أن “الحزب” يطرب لسماع هذا الحُكم ويسجّله كاستجابة لمؤتمره التأسيسي. لكن لا النظام السوري ولا النظام الإيراني بعده سمحا بتطبيق تلك “الصيغة”، فقط لكونها لا تتناسب مع أي وضعية احتلالية.

هذه العقلية التي يدير بها “الحزب” (مع حركة “أمل”) تسلّطه على لبنان تقوده اليوم الى أسوأ السيناريوات (تعطيل الحكومة، زعزعة السلطة القضائية، احاطة الانتخابات بالغموض، التمهيد للفراغ الرئاسي، إبطاء عجلة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، مواصلة توتير العلاقة مع الدول العربية…) ويلاقيه في ذلك حليفه العوني متظاهراً بلعب دور اعتراضي كاذب. فالأول مدرك أن لا سبيل الى مؤتمر تأسيسي تكون إيران عرابته المتفرّدة، والآخر مدرك أن ترئيس جبران باسيل من سابع المستحيلات. وعلى الرغم من أن الاثنين يعرفان أن طموحاتهما باتت مشروع فتنة دائمة فإنهما يداعبان خيار الفدرلة ويفحصان تمثّلاته الجغرافية الممكنة، كتعويض لهما عن تطويع لبنان واللبنانيين، فالفدرلة تحقّق لهما لبنان الذي يشبه نعيم قاسم.

شارك المقال