عبث الحوار!

علي نون
علي نون

يصّح مبدئيًا ان يُقال ان الف ساعة حوار أفضل من لحظات اصطدام واشتباك وابتلاء في الشارع… ويصّح ذلك في لبنان اكثر من غيره تبعا لتعدد انتماءات اهله طائفيًا ومذهبيا وسياسيا، ثم تحوّله بفعل جغرافيته الطبيعية والسياسية الى مصبّ وملتقى لكل حراك في جواره سلما وحربا.

الا ان نظرية الفن للفن لها في لبنان صنو غير مأنوس هو الحوار للحوار… وليس لهدف تسووي لا بدّ منه، او لمعالجة ضرورية لأزمة طارئة او عادية او عاجلة او مقيمة مثلما هي الحال هذه الايام.

الحوار البديل عن الصدام يكاد يكون من حيث المبدأ ضرورة حاسمة لكنه في نواحينا العزيزة هو أداة يستخدمها صاحب الشأن والسلاح والهوى الذاتي للوصول الى ما يريد وليس الى نقطة وسطية بينه وبين أخصامه الذين يحاورهم… والتجربة مريرة منذ العام ٢٠٠٦ تحديدا وهو كان عاما مفصليا في سياقات تلك الطقوس، بحيث ان جماعة ايران في لبنان، اي حزبها المحلي وملحقاته التي كانت وثيقة العلاقة بنظام آل الاسد السوري آنذاك، “وافقت” على جملة امور سيادية حاسمة في طاولة الحوار المنعقدة في المجلس النيابي الا أن شيئا منها لم يجد طريقه الى التنفيذ.

والتذكير ببعض ذلك مفيد للمقارنة والمحاججة، بدءًا بالموافقة على إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وترسيم الحدود مع سوريا ومعالجة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها… لكن ما جرى لاحقا لم تكن له علاقة بتلك المقررات بل العكس تماما: لا المحكمة الدولية حظيت بتوافق عليها، لا من قريب ولا من بعيد، وجرى تعطيل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة طويلا لمنعها من اتخاذ الخطوات الشرعية اللازمة لمواكبة الجهد الدولي لتشكيل تلك المحكمة وترافق ذلك مع احتكاكات ميدانية خطيرة… وسلسلة من الاغتيالات المعروفة في سياق حملة ترهيب قصوى لمنع انطلاق قطار المحاكمة ووصوله الى العدالة! ولا ترسيم الحدود الشرقية والشمالية مع نظام الاسد جرى او قُبِلَ به عمليا وواقعيا… ولا السلاح الفلسطيني شهد اي “تنظيم” تبعا لما قررته طاولة الحوار الوطني!

والتجربة المفصلية الموازية في اهميتها جرت في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان عام ٢٠١٢ عندما انعقدت طاولة الحوار في قصر بعبدا آنذاك وتم فيها التوافق على ما سُمي لاحقا “إعلان بعبدا” الذي نصّ أساسا على النأي بلبنان عن صراعات المنطقة وتأثيراتها… وطبعا ما جرى لاحقا كان العكس تماما بتاتا: ذهب حزب ايران الى سوريا وانخرط بقضّه وقضيضه في حرب نظامها على أهلها وصولا الى تشريد اكثر من نصف عددهم وتدميرها طولا وعرضا ثم “الانتقال” الى تطوير التدخل الدموي لمصلحة ايران في العراق واليمن وغيرهما.

وبين هذين التاريخين، فصول هامشية كثيرة تدلّ في زبدتها على اعتماد حزب ايران وتوابعه تكتيكات متحركة ومخزية في سياق استراتيجية ثابتة: حوار العام ٢٠٠٦ جرى تحت وطأة ضرورة استيعاب الموجة السيادية الكبيرة التي فرضت الخروج العسكري السوري من لبنان ومحاصرة تداعيات زلزال اغتيال الرئيس الحريري محليا وخارجيا… وحوار العام ٢٠١٢ جرى في ظل طغيان موجة الثورة السورية في الداخل السوري وفي لبنان استطرادا… وكان المطلوب آنذاك ايضا “استيعاب” تلك الموجة المزدوجة بانتظار اتمام عدّة الانقضاض المضاد عليها! وهذا ما جرى حرفيا! إذ ان حزب ايران لم ينقض بنود “إعلان بعبدا” فقط بل دعا رئيس الجمهورية يومها وباقي فرقاء طاولة الحوار الى تبليط البحر… وشرب المياه التي نُقِعَ فيها ذلك الاعلان!

وفي هذا الاداء، اظهر حزب ايران اخذه امر الحوار الوطني على محمل تكتيكاته ومصلحته من دون سواها: يذهب اليه اذا كان مأزوما وينساه اذا كان مرتاحا! ويذهب اليه مضطرا وليس مقتنعا اذا فرضت “الظروف الموضوعية” ذلك! والتزاماته فيه عابرة وليست ثابتة وقابلة للنقض في اول “فرصة” مناسبة! اي انه يحاور شكلًا وعرضًا لكنه ثابت عند ارتباطاته الايرانية واستراتيجية المشروع الايراني… وآخر همٍّ من همومه هو ان يأخذ هواجس الاخرين او مصالحهم او مصالح لبنان العليا في الحسبان. والحوار عنده، هو آلة من آليات عمله المشتملة على السلاح والمال والامن والاعلام… ولكل مقام مقال! وكل ذلك الجهد يجب ان يصبّ في خانة وخدمة مشروع الولي الفقيه اولا واخيرا. وتحت ذلك السقف وليس فوقه! ومن العبث الخالص ان يعود البعض الى افتراض وجود حسّ وطني جامع وراء الدعوة المستجدة والراهنة الى “استئناف” الحوار في قصر بعبدا!

ساكن القصر الرئاسي في بعبدا يغزل على المنوال عينه الذي اعتمده راعيه ونصيره حزب ايران، أي إنه “يشعر” بضرورة التئام الشكل الحواري برعايته الميمونة لانه يريد ان يقول انه حكم وليس طرفا وان على الآخرين مواكبة رعايته وحوكمته لدفع حظوظ صهره جبران باسيل المنبوذ والمعاقب دوليا على فساده، الى الامام في سعيه الى اتمام وراثته السياسية والدستورية له! اي انه يريد “الحوار” لإنه مأزوم ويشعر بالضعف! ويطلبه لأنه صار يحتاج إلى غطاء الآخرين وليس لأن مصلحة لبنان العليا تتطلب ذلك! ولأن اوراقه وأوراق صهره احترقت من زمان وصارت رمادا لا يفيد احدا.

في المرات السابقة كان حزب ايران يذهب الى “محاورة” اخصامه السياديين والاستقلاليين الذين يحملون مشروعا وطنيا مضادا لمشروعه الاستلحاقي بإيران وبرنامجها في عموم المنطقة، لكنه اليوم مدعو الى حوار داخلي اذا صحّ التعبير، لان المطلوب فعليا هو تجديد روح الحلف بينه وبين تيار ميشال عون وصهره وتضييق مساحة الهوّة الفاصلة بين ذلك التيار وشريكه في الثنائية الشيعية… ثم محاولة “بيع” الاشقاء العرب كذبة البحث مجددا بما يسمى الاستراتيجية الدفاعية التي تعني في آخر تجلياتها ان حزب ايران قَبِلَ بوضع سلاحه تحت امرة نظامية شرعية لبنانية! وانه لم يعد يتحكّم بمزدوجة الحرب والسلام… وما غير ذلك من تخرّصات عونية – باسيلية بائسة!

مأزق حزب الله كبير، لكن بعض ابواب الخروج منه موجود في طهران وليس في بعبدا… وعند سائر اللبنانيين وليس عند اتباعه. وما هو مطلوب منه اليوم اكبر من قدرته على الدفع بعد ان احرق او يكاد، كل أوراقه محليا وعربيا ودوليا.

شارك المقال