إزدواجية مشروع واحد

علي نون
علي نون

تقدم ايران عيّنة حديثة عن أداء قديم: الاعتداء على البنى التحتية المدنية في ابوظبي بعد الامعان في تلك الممارسات ضد المملكة العربية السعودية، يدلُّ على تمسك صاحب الشأن في طهران بمبدأ الازدواجية إزاء الداخل والخارج والكبيرة والصغيرة.

يفاوض او بالأحرى يناور تفاوضياً مع السعودية في بغداد لكنه يستمر في “عمله” المشكو منه وكأن لا احد امامه ولا خلفه، بل مسار ثابت لا يتغير إلا بالقوة القاهرة! ويستقبل مبعوثا إماراتيًا رفيع المستوى راح الى طهران بنيّة بنّاءة حسنة للبحث في شؤون الحياة وشروطها استنادا الى كتاب المصلحة المتبادلة والواقعية الجيو – سياسية والعلاقات السوية والطبيعية بين الجيران، لكنه لا يتردد في ممارسة العدوان على دولة الضيف طالما ان مصلحته اقتضت ذلك !

ازدواجية قديمة اعتمدها صاحب القرار الايراني ولا يزال تبدأ من الداخل حيث الدولة مشروع لم يكتمل بعد من جهة والثورة التي لم تنته بعد من جهة ثانية… وحيث المؤسسات النظامية المعتادة توازيها مؤسسات ثورية تملك ما لا تملكه الاولى! وحيث وزارة الخارجية “تتعامل” مع المجتمع الدولي وفق شروطه وآلياته ونظمه وعاداته فيما “الحرس الثوري” يستأنف مشروعه التوسعي بكل الآليات الممكنة… وهذه تتضمن في رأسها اعتماد وسائل غير شرعية ولا مشروعة ولا علاقة لها بشيء من أشياء وبديهيات العلاقات الطبيعية بين الدول ولا بالشرعيات الدستورية الحاكمة لتلك العلاقات .

سبق ان مرّت دول الخليج العربي عموما والسعودية خصوصا بتلك التجربة وفتحت اكثر من مرة ابواب التفاهم الممكن مع طهران، ووسّعت الاحتمالات باتجاهات التلاقي وليس الصدام… لكن في كل مرة كانت الافعال تنسف النيّات والمكشوفات بحيث ان المحاور او المفاوض العربي كان عليه ان يحكي مع “الديبلوماسي” الجالس قبالته وفي الذهن أسئلة كبيرة: من يمثل هذا الشخص؟ الدولة او الثورة؟ وزارة الخارجية او “الحرس”؟ رئيس ألجمهورية او “المرشد”؟ وهل يكفي توقيعه بالقلم على اي اتفاق او التزام او تفاهم لضمان التفيذ، ام ان البصمة الاخيرة هي في يد حامل الصاروخ والعبوة الناسفة وراعي ادوات مشروع التمدّد التخريبي في غير ارضه؟

وتلك أسئلة ثبُت بالمراس انها في مكانها تماما وليست هواجس شريرة… إذ ان الازدواجية في الاداء الرسمي الايراني كانت دائما ولا تزال تعبيرا عن أحادية منهجية ثابتة يحددها مرجع واحد هو المرشد نفسه! تختلف التعبيرات والأساليب والهويات المنفذة لكن “المشروع” واحد، والجميع يعمل تحت سقفه وكل من مكانه! التفاوض قد يكون صادقا ومطلوبا في لحظته، فتُستدعى الدولة! ثم تصير المصلحة في نسف ما انتجه ذلك التفاوض، فتُستدعى الثورة! وهذه في واقع الحال معضلة ومقتلة للداخل الايراني كما للخارج العربي والاجنبي: تعاني اكثرية الايرانيين من أزمات معيشية حادة ومن تردي القيمة الشرائية للعملة الوطنية لكن موازنة التوسع الخارجي لا تعاني من أزمة تمويل فتّاكة بل من قدرة الأخصام والأعداء على الصمود والتصدي! وعلى إفشال ما امكن من ضروب ذلك الجموح التخريبي اينما نزل وحلّ!

وفي النتيجة المزدوجة لذلك الضنى، ان إيران الدولة عاجزة عن كفاية ناسها في الداخل وايران الثورة عاجزة عن إكمال اي بناء لها في الخارج! بل الذي لم يعد موضع نقاش او جدال او خلاف، هو ان التجربة الايرانية التي بدأت عام ١٩٧٩ لم تتمكن من تقديم بديل ناجح عن ذلك الذي ثارت عليه وضده! ولم تستطع التعايش مع الواقع وحقائق الأرض والإمكانات ولا مع عالم اليوم بل سرحت طويلا ولا تزال في تخيلاتها وغيبياتها وحملت اثقالا فوق قدرتها وقوتها ولبست ثوبا فضفاضًا كلما حاولت رتقه هرّ اكثر فأكثر حتى تلاشى او يكاد كاشفا المستور والمفضوح سواء بسواء! لا ايران صارت افضل من ايام زمان الشاهنشاهي ولا فلسطين عادت الى اهلها ولا العرب والمسلمين صاروا في مكان آخر احسن وافضل وأنضج ولا العالم الواسع صار مقتنعًا بفضائل الإمبراطورية المطلوب إحياء عظامها الرميم… ولا الإسلام نفسه صار في منأى عن الأحكام الجاهزة والمقوْلبة ولا صار اكثر قبولا وتفهما من رافضيه او من غير أهله، ولا نهجا يعيد حقوقا مسلوبة او يبني مثالا تعايشيا يغري الآخرين بشيء او بحداثة او بأسلوب حياة وعيش، بل العكس هو الصحيح!

ليست دولة الامارات العربية المتحدة ولن تكون اول أو آخر ضحايا المشروع الايراني المستحيل، بل هي كانت وتبقى واحدة من الظواهر المثلى النقيضة لذلك المشروع حيث الدولة والتنمية والعمران مرادفات ثقافة عيش وحياة اقرب إلى الله من الذين يدّعون احتكار النطق باسمه جلّ جلاله!

شارك المقال