“نسر” الحريري يُحلق… والغربان تنعق!

عبد السلام موسى

قال الرئيس سعد الحريري كلمته “بما قل ودل”، ولاقاه جمهوره بما يكفي ويزيد من الثبات على دروب الوفاء، لرجل قام بـفعلٍ أخلاقي شجاع قلّ نظيره في الحياة السياسية اللبنانية، حيث لا يجرؤ الآخرون، كما فعل حين قدم استقالة حكومته، قبل سنتين، استجابة لإرادة الناس في ثورة 17 تشرين.

لكن ما قاله ليس سوى “غيض من فيض” ما لم يقله بالتفصيل عن جدوى المشاركة في انتخابات “تُقرأ من عنوانها”، ومن ما يرافقها من قرع طبول حروب سياسية لا ترى أبعد من كرسي القصر، ولا تقوم إلا بـ”تخصيب الفتن” من أجل بضعة مقاعد نيابية لن تقدم ولن تؤخر، وبـإعادة إنتاج صراعات أهلية لا وظيفة لها سوى استنزاف رصيد الدولة، وتعميق معاناة اللبنانيين في جهنم التي يعيشونها، بفعل عهدٍ ارتضى رئيسه ميشال عون أن يكون أسير سياسات “حزب الله” وسلاحه، الذي يُمعن في إغراق لبنان في الهاوية الايرانية، وأخذه إلى المزيد من الاشتباك مع أشقائه العرب، منذ تحول من “مقاومة” إلى “مقاولة بالدماء” في سوريا والعراق واليمن، لتنفيذ تعهدات التخريب الإيرانية في المنطقة العربية.

لطالما مدّ سعد الحريري يده للجميع، ودفع من رصيده السياسي أثماناً شعبية لقرارات لم تكن شعبوية، وآثر العضّ على جراح ما زال البعض يبرم سكينه فيها إلى اليوم، وبادر في أكثر من استحقاق إلى تغليب المصلحة الوطنية على أي مصلحة شخصية أو سياسية، وتحمّل ما لم يتحمله أحد من غدر سياسي ومزايدات رخيصة ممن كانوا في وسط البيت، وعلى عتبته، وممن كانوا حلفاء أو خصوماً، يضربون اليوم أخماس الحسابات الانتخابية بأسداسها، ويتسابقون من قعرهم، بشكل مخزٍ ومعيب، إلى محاولة وراثته وهو حيُ يرزق، والتسلق بالانتخابات على أكتاف جمهوره، كما لو أن بصيرتهم معمية، ولا يرون أن قاعدة سعد الحريري ثابتة معه “يا جبل ما يهزّك ريح”، وستكون حيث يكون، وأن أهل “المستقبل” ليسوا قطعة أرض للضم والفرز، أو وقوداً للاستهلاك الانتخابي لدى محور الغدر بـ”تيار المستقبل” أو “حزب الله” وصيصانه.

تبصّر سعد الحريري، من موقعه الوطني والعربي، في ما نحن مقبلون عليه من عواصف في منطقة يُعاد تركيبها، على قاعدة “لكل مقام مقال”، ولكل مرحلة أداء يتماشى معها ويشبهها، وهو بالطبع لا يشبه مرحلة جهنم، وما يسودها من ضرب لعلاقات لبنان بأشقائه العرب وتدمير للمؤسسات والقضاء، ولا يشبه أيضاً من يقدمون أنفسهم على أنهم “أسياد البلد” فيها وهم غارقون في موبقاتهم التي تغتال مستقبل اللبنانيين، كما اغتالوا مهندسه، الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ولا يشبه أيضاً وأيضاً بمشروعه الوطني ما يسود على الساحة من مشاريع طارئة تستثمر في الفتنة على شاكلة ما شهدناه في “أحداث الطيونة”.

آثر سعد الحريري، الذي فاق أيوب في صبره في السنوات الماضية، أن يعود خطوة إلى الوراء، من أجل التقدم خطوتين إلى الامام، في زمن تغيير الدول والمشاريع التي تريد العودة بلبنان إلى زمن الساحة والاستباحة، وقرر الابتعاد عن كل هذا “الوسخ”، ليظهر كل من اتخذه شماعة على حقيقته أمام الناس، وليعرف كل من تسلق على أكتافه في السياسة حجمه الطبيعي، ولنشاهد معه ماذا سيفعلون للبنانيين بعضلاتهم، وما هو مشروعهم لإدارة شؤون البلاد.

قرار سعد رفيق الحريري “التاريخي” يختزل “بداية” رجل شجاع، لا نهايته، كما يتمنى بعض “الغربان السوداء” التي تنعق تحت “النسور البيضاء” المحلقة في “السماء الزرقاء”… ومن يعش يرَ!.

شارك المقال