أبوّة النكران

علي نون
علي نون

واحدة من أبرز سمات الطغاة ومشاريع الطغاة هي النكران والمكابرة ورمي مسؤولية الفشل والكوارث على غيرهم.

فعلها صدام حسين مع كبار ضباطه غداة اندحاره من الكويت وانفجار ما سماه “صفحة الغدر والخيانة” أي الانتفاضة الشعبانية التي اندلعت جنوبا وشمالا عند المجموع الشيعي من جهة، والمجموع الكردي من جهة ثانية… انتظر حتى هدأت الأمور واستكان الى بقائه حيث هو تبعا لقرار الرئيس الأميركي السابق جورج بوش عدم ملاحقته الى بغداد، ونفذ واحدة من أشنع الجرائم في حق خيرة ضباط الجيش ومنهم الفريق عصمت صابر عمر والفريق بارق الحاج حنطة وثلاثة قادة آخرين، بعد أن حمّلهم مسؤولية الهزيمة في الكويت والانتفاضة في الداخل من دون أن يسأله أحد (ومن كان يجرؤ؟) عن مسؤوليته الأولى عن كل ذلك الخراب الذي حلّ بالعراق وجيرانه!

ارتأى أن يحمّل من أعدمهم تبعات قراراته هو! وأن يعتبر المنتفضين على حكمه عملاء أجندة غدر وخيانة من دون أن يتوقف عند أسباب انتفاضة هؤلاء الذين أذلّتهم سياساته وحروبه ومذابحه وتحويله العراق الغني والأبي الى دولة محطمة ومفلسة بكل المقاييس!

ومثله فعل معمر القذافي الذي أراد أن “يعاقب” عموم الليبيين في طرابلس وبنغازي وغيرهما على تمردهم على حكمه الذي أيضا خرّب ليبيا الغنية وبدّد ثرواتها على أهوائه وأمراضه وتخريفاته… وصفهم بالجرذان وسألهم عن ماهيتهم (من أنتم؟) وشدّ رحاله الى تنفيذ مجزرة ابادة في حقهم لولا التدخل الدولي الحاسم في اللحظة الصحيحة!

لم يجد “الأخ العقيد” أسبابا وجيهة ونبيلة لخروج الناس عليه وعلى طغمته الحاكمة، ولا سببا واحدا يستدعي من هؤلاء الرعاع المنتفضين عضّ اليد التي حوّلت ليبيا الى درّة من درر الدنيا شرقا وغربا!، وجعلتها واحة ابداعية تنافس دبي وأبوظبي في الامارات، وجدّة وأخواتها في السعودية!… لم يرَ شيئا من الحطام الذي آلت اليه البلاد بعد أربعة عقود من حكمه! ولا تواضع أحوال الليبيين مقارنة بأحوال غيرهم في الدول النفطية ذات الحكم الرشيد والقيادة الراعية والواعية والصالحة، بل أخذه النكران والعته وغرابة الأطوار الى ما ذهب اليه صدام وقبلهما كبار طغاة التاريخ!

… والى اللحظة الراهنة، لا يزال بشار الأسد يمارس هوايته المفضلة في اتهام ملايين السوريين بالعمالة والانخراط في مؤامرة “كونية”، أي فوق بشرية وأرضية، لأنهم ثاروا على حكمه وتحكّمه مع عصبة فئوية عائلية وحزبية، بأوضاع سوريا على مدى عقود وصولا الى تدميرها وترميد عمرانها وبنيانها الحجري والبشري! ومثله مثل صنويه العراقي والليبي، لم يجد سببا وجيها واحدا لخروج الناس عليه والتضحية بالأرواح وبكل شيء وأي شيء من أجل التخلص من طغيانه المؤبد!

وتلك أمثلة يسهل الأخذ بها لشدّة حضورها الراهن في مآسي أوضاع الدول الثلاث… ويسهل تكرارها لكونها علامات نافرة تدلّ على كيفية إلحاق النكبات بعموم الناس نتيجة رعونة استبدادية مزدوجة: واحدة تتمثل بالقرارات المدمرة، وثانية بنفي المسؤولية عن تلك القرارت وإلصاقها بالغير، أفرادا وجماعات!

في نواحينا التي كانت ذات يوم، عزيزة ومقتدرة ومعقولة النجاح، يخرج شبيه (غير مكتمل!) لهؤلاء الطغاة، ساعيا على قياسه، الى الأخذ بلبّ أدائهم النكراني والمتخفف من المسؤولية الأولى، بحكم المنصب، عن جملة المصائب والكوارث التي لحقت باللبنانيين وببلدهم ودولتهم ومؤسساتهم… يواظب على النكران، وعلى تحميل غيره تبعات بعض أدائه الكيدي والعدائي والانفعالي والحاقد، وتبعات قرارته التعطيلية التي زادت الأزمات ثقلا وحمولة وتجذّرا، ثم تغاضيه المرضي عن سلوكيات أنانية فاضحة لصهره، وسياساته الابتزازية الرعناء والفاسدة والفاشلة، واستمراره في “رعايتها” وتزخيمها بالتبرير والاشادة والتنويه وابداء الاعجاب بصاحبها و”صلابته”، وهو الذي “تربى على يديه” وأظهر ريادة في سباق الكفاءة لخلافته!

لم يتطبّع صاحب الشأن هذا بقيم المنصب وشروط “الأبوة” الجامعة، بل بقي أمينا مخلصا لطبعه الأساس! وزاد عليه إضافات حرزانة وكبيرة بحكم انتقاله من حالة حزبية (شبه شرعية!) الى حالة سيادية شرعية تامة (للأسف!): في حالته الأولى فتح حروبا محلية داخل النسيج المسيحي ثم الوطني أدّت الى كوارث بشرية ومادية وأوصلت الى سقوط البلد بجملته في قبضة الوصاية الاسدية… وفي حالته الثانية اكتمل المقام وطار البلد برمّته، وفي عُرفه أن الجميع يتحمل المسؤولية ما عداه هو وصهره! بل ان هؤلاء المرتكبين أنفسهم اختلفوا على كل شيء لكنهم توحّدوا على تحطيم عهده، ومنعه من تحقيق غاياته الانقاذية، وسدّ الطريق أمام خليفته لمنعه من تحقيق المعجزات، أكان في قطاع الطاقة الذي أفلس خزينة ألدولة، أو في مجمل مؤسسات القطاع العام التي خسرت فرصة الحداثة والشفافية وسلطان القانون والادارة الرشيدة!

…يعود الى لغته الأولى ويتوّعد ويهدد ويقول “ان الكيل طفح” وان “مهلة السماح انتهت”، وانه في الاجمال، لن يتراجع، ثم الأفصح من ذلك كله هو توجيهه أسئلة “محددة”: هل آذيت أحدا؟ هل بنيت قصرا؟ هل غدرت بحليف؟ هل احترفت التحريض؟… وفي ذلك لا داعي ولا ضرورة لأي جواب لأن النكران مرض مقيم وليس عارضا عابرا. لكننا مع ذلك، تبقى حالتنا “أفضل” من مثيلاتها الصدّامية والقذّافية والأسدية، أقلّه لأن المتشبّه بها عندنا، لم يعد يملك مدافع نارية لاستخدامها!

شارك المقال