صورة أوروبا الأمنية تتغير

حسناء بو حرفوش

تظهر الأحداث الأخيرة المتعلقة بأوكرانيا استجابة نشطة من بريطانيا في الوقت الذي تستمر فيه قوى الاتحاد الأوروبي بالتداول في ما بينها، مما يطرح السؤال على القادة في باريس وبرلين وبروكسل حول كيفية التعامل مع بريطانيا النشطة الملتزمة بأوروبا ولكن من دون أي التزام بالعمل ضمن عمليات الاتحاد الأوروبي، بحسب تحليل في موقع معهد “تشاتام هاوس” الإلكتروني. وأتى رد الفعل الفرنسي أقوى إلى حد ما ولكنه بدا مربكاً بحيث دعا إيمانويل ماكرون الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في البداية الى إجراء حوارها الخاص مع روسيا، كبديل على ما يبدو لدعم استجابة الناتو بقيادة الولايات المتحدة.

ولحظ بعض السيناريوهات الاختلاف في النهج بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، فعلى الرغم من النظر إلى رد المملكة المتحدة على أزمة أوكرانيا كرد سريع وجوهري، إلا أنه يكشف أيضاً عن تطورات أعمق في المشهد الأمني الأوروبي الحالي حيث كانت دول الاتحاد الأوروبي تخشى أن تختار بريطانيا الابتعاد بعد خروج الأخيرة من الاتحاد. ومن المؤكد أن خسارة هذه القوة العسكرية ستشكل ضربة لأوروبا، لا سيما مع تنامي تهديد روسيا في السنوات الأخيرة، لذلك سيكون هناك ارتياح لأن أزمة أوكرانيا تظهر أن بريطانيا لم تفقد بلا شك التزامها. ويطرح الآن سؤال على القادة في باريس وبرلين وبروكسل حول كيفية التعامل مع بريطانيا النشطة الملتزمة بأوروبا ولكن من دون أي التزام بالعمل ضمن عمليات الاتحاد الأوروبي.

وتمتلك المملكة المتحدة بالفعل شبكة مثيرة للاهتمام من العلاقات الثنائية والمتناهية الصغر مع الحلفاء الأوروبيين. وتجمع قوتها الاستكشافية المشتركة بين عشر دول أوروبية، بما في ذلك الدول الاسكندنافية ودول البلطيق، وهي في وضع جيد لدعم أنشطة الناتو مع الحفاظ على المرونة والاستقلال. وخلال العام الماضي، عملت المملكة المتحدة مع النرويج في منطقة القطب الشمالي وقدمت الدعم للمهندسين العسكريين لبولندا، وعملت مباشرة مع فرنسا وألمانيا من خلال مجموعة متجاوزة مرة أخرى مؤسسات الاتحاد الأوروبي. كما تقدم المملكة المتحدة علاقة فريدة من نوعها على المستوى الديبلوماسي والتكنولوجي، وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع الولايات المتحدة، وهو أمر مهم لا مفر منه في التعامل مع التهديد من روسيا. ونظراً الى أن الولايات المتحدة ترى الأمن الأوروبي من منظور الناتو، وليس من منظور الاتحاد الأوروبي، فإن هذا يجعل بريطانيا لاعباً رائداً كواحدة من الدول القليلة التي تفي بالتزامات الإنفاق الخاصة بحلف الناتو.

ولكن على الرغم من هذه الشراكات الإبداعية التي تتجاوز قيود خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يتعين على المملكة المتحدة بذل المزيد من الجهد لكسب ثقة أكبر لاعبي الاتحاد الأوروبي: فرنسا وألمانيا. وتدهورت العلاقات مع فرنسا بعد الخلافات حول قضايا عدة كنقص التعاون بشأن المهاجرين واتفاقية “أوكوس” لتكنولوجيا الدفاع بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأوستراليا. كما يجب على المملكة المتحدة ألا تستخدم أزمة أوكرانيا كفرصة لتسجيل النقاط الجيوسياسية. ويبرر التاريخ نهج ألمانيا الحذر في التعامل العسكري بشكل وجيه، حتى لو كانت هذه الأسباب تقيد استجابة البلاد لهذا التحدي. ويعتقد بعض أعضاء الحزب الديموقراطي الاشتراكي الحاكم في ألمانيا أن الموقف الأقل تصادمية للحزب لعب دوراً محورياً في تهدئة الصراع خلال الحرب الباردة. وعلى الرغم من أن بعض المؤرخين قد يجادلون في هذا الاعتقاد، إلا أنه لا يزال دافعاً متميزاً وأكثر نبلاً من المصلحة الذاتية الاقتصادية البحتة.

ويتطلب التعاون بشكل دائم بعض التنازلات من جميع الأطراف. ويجب أن تقبل ألمانيا مستوى معيناً من المخاطر الاقتصادية إذا كانت العقوبات ضد روسيا ذات مغزى. كما يجب على فرنسا أن تقبل ضرورة مشاركة المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وأنه من غير المرجح تحقيق الحوار الأكثر فاعلية من خلال مؤسسات الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، يجب على المملكة المتحدة قبول انخراط أكبر لاعبين في الاتحاد الأوروبي ببعض الأدورا، خصوصاً وأن صيغة نورماندي التي تضم روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا قد أثبتت ثمارها في الماضي. وتحتاج المملكة المتحدة إلى تضييق الخناق على علاقاتها الاقتصادية مع روسيا. وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة أقل اعتماداً على الغاز الروسي من ألمانيا وفرنسا ومعظم دول أوروبا الوسطى، ترتبط لندن بعلاقات عميقة مع موسكو في مجال التمويل والعقارات. ويسلط تقرير صدر مؤخراً عن “تشاتام هاوس” الضوء على نحو 150 سند ملكية للأراضي في المملكة المتحدة “مملوكة لأفراد روس يُزعم أنهم متورطون في الفساد أو لهم صلات بنظام بوتين”. ومن الواضح أن بريطانيا بحاجة الى إعادة تنظيم سلوكها تحت وطأة الاستمرار بتوفير الحماية القانونية والرعاية المالية الفاعلة لنظام تعارضه عسكرياً على الجناح الشرقي لأوكرانيا.”

شارك المقال