معركة تحرير الجيش اللبناني من الأميركيين أو من السيادة؟

جورج حايك
جورج حايك

يشكّل الجيش اللبناني في عقيدته اللبنانية البحتة آخر مداميك السيادة اللبنانية بعدما استولى “حزب الله” على كل المؤسسات الدستورية ورهنها للجمهورية الاسلامية الايرانية، لذا ليس مستغرباً أن يستهدفه الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله من وقت إلى آخر، وكان آخرها الأسبوع الفائت، معتبراً أن “هناك حضوراً في المؤسسة العسكرية، وأن هناك ضباطاً أميركيين في اليرزة، ‏والسفيرة الأميركية لا تتعزل من هناك ولازقة بالجيش”.

لكن كلام نصرالله في حق الجيش يصوّب فيه على أهداف عديدة، قد تكون احداها مسألة النفوذ الأميركي فيه، إلا أنها ليست وحيدة حتماً، لأن نصرالله يعرف بعمق أن علاقة الجيش اللبناني بالأميركيين تاريخية، وتعود إلى أواسط القرن العشرين، عندما كان يذهب ضباط من الجيش للتدرّب في الولايات المتحدة. وقد نشطت المساعدات الآتية من واشنطن منذ أواسط التسعينيات أي بعد انتهاء الحرب اللبنانية، وتركّز تدريب الولايات المتحدة لأفراد الجيش، إلى حد كبير، على المهنية الأساسية وصيانة المعدات. ومنذ عام 2008 فصاعداً، زادت بشكل كبير من تدريبها لوحدات القوات الخاصة التابعة للجيش اللبناني، بما في ذلك فوج المغاوير وفوج مغاوير البحر (المعروف أيضاً باسم القوات البحرية اللبنانية). وعلى الرغم من أنه لا يزال هناك نقص في قدراتها وإمكاناتها، فقد أظهرت القوات الخاصة مكاسب كبيرة، لا سيما كجزء من الجهود التي بذلت في مواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي عام 2017.

واضح أن الأميركيين يراهنون على الجيش بصفته حليفاً وثيقاً في المنطقة بهدف مكافحة الارهاب، ولعل هذا الهدف يعتبره نصر الله مطاطياً، لأن الادارة الأميركية تصنّف “حزب الله” ارهابياً! لذلك تتوالى المساعدات الأميركية للجيش وتطويره من دون ازعاج اسرائيل من خلال تزويده بأسلحة نوعية قد تؤذي حليفة أميركا في الشرق الأوسط. مع ذلك، يُدرك قائد الجيش العماد جوزف عون أنه لا غنى عن هذه المساعدات، وقد اضطر إلى الانتقال إلى الولايات المتحدة لتحفيز الإدارة الأميركية على تقديم المزيد من الدعم وكان آخرها منذ شهرين، وقد طالب فيها بدعم مالي بعدما سجّلت حالات فرار لعدد من الجنود من المؤسسة العسكرية نتيجة الضائقة المالية.

كل هذه المعطيات يعرفها نصر الله، لكن رجل ايران الأول في لبنان بل في الشرق الأوسط، لا يوفّر انتقاداته كل فترة للتصويب على الجيش وقيادته، ففي العام 2017 وعندما أوشك الجيش على تحقيق انتصار في معركة “فجر الجرود” ضد تنظيم “داعش”، تدخل الحزب على نحو سافر معرقلاً انهاء المعركة، باحثاً عن مخرج لمقاتلي “داعش”، مؤمناً لهم باصات مكيّفة ومطلقاً سبيلهم بالاتفاق مع النظام السوري ليمروا في أراضيه نحو الحدود السورية – التركية! والأسوأ من ذلك، أن نصر الله حرم الجيش من الاحتفال بالنصر الذي حققه، فبدا كأنه لم ينتصر، وإنْ فعل، فليس وحده، بل بمشاركة عناصر الحزب، وبالتنسيق مع الجيش السوري.!

وفي العام الفائت، توجّه نصر الله بفوقية إلى الجيش اللبناني لكشف وقائع تحقيقات المرفأ، ملمحاً إلى أن قيادته تخفي هذه التحقيقات لغاية في “نفس يعقوب”، علماً أنها وُضِعت بتصرف قاضي التحقيق وهو الجهة الرسمية الوحيدة التي يجب أن تكون مطلعة حالياً على هذا التحقيق. وتجلّت الفوقيّة مرة أخرى بكلام رئيس المجلس التنفيذي لـ “حزب الله” هاشم صفي الدين مؤكداً أنه “حتى الآن لم نخض معركة إخراج الولايات المتحدة الأميركية من أجهزة الدولة، ولكن إذا جاء اليوم المناسب وخضنا هذه المعركة، سيشاهد اللبنانيون شيئاً آخر..”. لكن مقابل هذا الكلام المجافي للحقيقة، تظهر وقائع تبرهن أن الولايات المتحدة متراجعة كلياً من الشرق الأوسط، وهذا ما يتغنى به “حزب الله” نفسه، بل هناك إقرار أميركي بنفوذ واسع لإيران في لبنان، بدءاً من السماح بتشكيل حكومة تضمّ “حزب الله”، تزامناً مع تمرير صهاريج المازوت الإيراني دونما معوقات، توازياً مع السماح باستجرار الغاز المصري والطاقة عبر الأردن وسوريا، وانتهاء بغضّ النظر عن تطبيع بعض الدول العربية علاقاتها مع دمشق.

وقد تجاوز نصر الله كل الحدود، عندما أعلن خلال هجومه على رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع أن لديه 100 ألف مقاتل مدربين ومسلحين، وحتماً هذا الكلام لم يكن موجهاً الى جعجع الذي حلّ تنظيمه العسكري منذ العام 1990، بل فهم الجميع أن كلام نصر الله يقصد به أنه التنظيم العسكري الأقوى على الأرض اللبنانية، لأن عدد عناصر الجيش اللبناني لا يتجاوز الـ85 الفاً، وهو يعاني اقتصادياً، وليس موفّراً له دعم مالي كبير كما توفّره ايران للحزب، وهذا ما دفع قائد الجيش إلى طلب الدعم الأميركي. وقد تكون رسالة نصر الله التهديدية لقيادة الجيش مبررة لأن الأشرطة المسجّلة أبرزت عناصر للجيش اللبناني يردّون على مصادر النيران التي أطلقها أنصار الثنائي الشيعي.

وما يطرح علامات استفهام عديدة هي الهجوم المُمنهج الذي يشنّه اعلامي جريدة “الأخبار” التابعة لـ “حزب الله” على قائد الجيش، علماً أن تصرّفاً كهذا من غير الممكن أن يتمّ لولا غطاء مباشر من نصر الله الذي يدفع رواتب هؤلاء المحررين.

أما سرّ انتقاد نصر الله الأخير لوجود ضباط أميركيين في اليرزة، فسببه استشعاره بإهتمام أميركي بالجيش وبقائده، يندرج ضمن أهداف عدة أهمها أن قائد الجيش مرشح قوي ومحتمل لرئاسة الجمهورية، وهو مرشح طبيعي، ذلك أن كل قائد للجيش هو مرشح للرئاسة، وبالتالي فإن هذا الموقف الأميركي بالتعاطي معه ينطلق من رغبة في الإتيان برئيس قوي في وجه مرشحي “حزب الله” أي رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل ورئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، فيما عون بالنسبة الى الأميركيين شخصية متوازنة وغير خاضعة للقوى السياسية ويتحرك من أجل مصلحة المؤسسة العسكرية.

من جهة أخرى، أراد نصر الله توجيه رسالة ضغط إلى قيادة الجيش لدفعه إلى إصدار تحقيق مركب لإبعاد أيّ شبهة عن الحزب وتبرئته من الاتهامات التي تطاله والنظام السوري باستقدام نيترات الأمونيوم واستخدامها، وهذا ما تم رفضهُ جملةً وتفصيلاً.

لا شك في أن مناقبية عون وزهده في المناصب وتكراره مرات عدة أنه ليس مرشحاً للرئاسة، تجعل منه رمزاً وطنياً، يُسبّب نفوراً لدى المنظومة الحاكمة بعد خروجه من دائرة الولاء السياسي الذي كان يسمّي أيّ مرشح لتولّي الرئاسة، الأمر الذي يحمل المجتمع الدولي على التمسّك به وخصوصاً الولايات المتحدة، لدوره الاستثنائي في الحفاظ على الأمن والاستقرار وحماية السلم الأهلي من آتون أسوأ أزمة يشهدها لبنان.

لكن يجب التذكير بأن الجيش اللبناني لا يتلقى المساعدات من الأميركيين فحسب، بل تأتي أيضاً من دول غربيّة مثل فرنسا، كندا، إيطاليا وغيرها. وهي مبنية على تأمين المُساعدات العينيّة للجيش، وعلى توفير العتاد والذخائر والتدريب، من دون الإرتباط بأي محاور أو تنفيذ أيّ أجندات خارجيّة.

واللافت أن الولايات المتحدة الأميركية ليست طوباوية، وقد يكون هدفها من تقوية الجيش وتطويره ودعمه، التصدي لـ”حزب الله” أو قضم نفوذه وهيمنته على القرار الرسمي اللبناني. لكن العماد عون رجل عاقل، ويعرف أن مسألة سلاح الحزب واشكاليته في الدولة اللبنانية لا تُحل عسكرياً وبالقوة بل من خلال تسوية سياسية في اطار حل شامل للمنطقة، وهذا ما يعرفه نصر الله جيداً. وقد برهن الجيش في مناسبات عديدة أن مُعالجته المشاكل الأمنية تتم بشكل حيادي وموضوعي بدون أي إنحياز لأي طرف. لذلك تنحصر رسائل نصر الله للجيش بثلاثة مواقف:

الأول، وقائي كي لا يخطر ببال قائد الجيش والأميركيين أن يضعوا المؤسسة العسكرية في مواجهة الحزب.

الثاني، الضغط على قيادة الجيش لنشر تحقيق يبرئ “حزب الله” من الاتهامات في مسألة انفجار مرفأ بيروت.

الثالث، قطع الطريق أمام وصول عون إلى الرئاسة إذ يرى فيه الحزب مرشحاً أميركياً.

مهما كانت الرسائل، تبدو ثلاثية “حزب الله” التي واكبت سيطرته على الجمهورية اللبنانية أي “جيش وشعب ومقاومة” متوعكة، لأن الجيش والشعب باتا محط استهداف من “حزب الله” الذي يزعم أنه مقاومة، وهو لم يعد سوى لواء عسكري تابع لإيران ينفّذ مشاريعها التوسعية في لبنان والمنطقة.

شارك المقال