الخطر على لبنان الكبير بعد رفيق الحريري

المحرر السياسي

لم تخمد نيران الحريق الذي خلّفه انفجار 14 شباط 2005 حتى اللحظة. الجمرة تحرق على مساحة وطن. ينزف الاغتيال ما تبقّى من مقوّمات وجود للدولة في الذكرى 17 على الاستشهاد. الجسم الاقتصاديّ هزيل يعاني فقر دمٍ ماليّ. يتوق إلى جرعة من دم مشروع رفيق الحريري للبدء من جديد. كما لو أنّها خطوة تأسيس شركة المقاولات الأولى في مسيرة الرئيس الشهيد عام 1969.

يحتاج صفائح من فئة دمه لضخّها في شرايين القطاع المصرفي العليل. كما لو أنها ترياق شفاء من ابتكار خطّة إنشاء مجموعة المصارف والشركات التي عمل على تأسيسها رفيق الحريري بين لبنان والمملكة العربية السعودية في سبعينيات القرن الماضي. يبحث لبنان عن حمضٍ نووي يذكّره بهويّته: “سويسرا الشرق”.

ينتظر زيارة من روحية رفيق الحريري تلقي السلام عليه، على هيئة الرجل الذي صار في الثمانينيات إسماً لامعاً بين أغنى مئة رجل في العالم. بيروت العاصمة تناشد، وهي تنزف. شلّعها دويّ 4 آب بعد مسلسل اغتيالات. تبحث عن “خوذة المهندس” التي اعتمرها من أعاد إعمارها بطرقاتها وأبنيتها وبناها التحتية بعد الحرب في التسعينيات. عندها تستطيع بيروت استعادة قواها والسير على قدميها، لتركض في شوارعها مع السياح العرب. يذكّرها رفيق الحريري بهويتها العربيّة… بذاكرتها. عندما استضافت قمة بيروت العربية في حضرة الرفيق. ويذكّرها بأنها كانت مدرسة الشرق، عندما خرّجت 36 ألف طالب جامعي على إسمه وفي زمنه.

كلّما سالت شمعة سنة إضافية عن لحظة الذكرى الأليمة، دقّت لحظة الخطر الاضافيّ على لبنان الكبير. تستذكر مراجع تاريخية المعنى الوطني لحضور رفيق الحريري السياسي انطلاقاً من عبارة “وقّفنا العدّ” التي شكّلت عامل طمأنة للمسيحيين مع التأكيد على هوية لبنان العربية بجناحيه المسلم والمسيحي. وإذ انطلق من مبدأ تطبيق اتفاق الطائف متحدّياً كلّ العراقيل التي وضعت كحاجز صدّ في مواجهة تطبيقه.

وينازع لبنان ما بعد رفيق الحريري وسط أزمة غياب تطبيق الطائف والنزاع على الهوية الوطنية. وتتصاعد المحاذير من انحسار المشاريع الوطنية العابرة للطوائف لمصلحة الخطاب الطائفي والدفاع عن مشاريع سياسية طائفية الطابع. ويظهر اللبنانيون على أنهم مجموعة شعوب تعيش في بقعة جغرافية صغيرة مع ازدياد النداءات الداعية الى الانفصال وبروز المشاريع التقسيمية التي اتخذت حيّزاً واسعاً على صعيد المنابر وطاولات النقاشات. وتتضاعف المؤشرات التحذيرية من مخاطر تراجع مشروع رفيق الحريري الذي ساهم في استكمال مسيرة محطات لبنان الكبير 1920 العابر للطوائف لمصلحة المساحات الجغرافية الضيقة تزامناً مع استفحال الانهيار الاقتصادي.

ماذا عن هوية لبنان الكبير الاقتصادية المبنية على الاقتصاد الحرّ؟ وأي ظروف متعاقبة زادت الخطر على الهوية الاقتصادية في مرحلة ما بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري؟ إنها الفوضى السياسية القصوى انطلاقاً من حرب تموز 2006 إلى 7 أيار 2008 وصولاً إلى اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري على عتبة لقائه الرئيس باراك أوباما عام 2011. تفجيرات مرعبة في بيروت حتى عام 2013 مع استشهاد محمد شطح. تعطيل الاستحقاقات الدستورية الرئاسية والحكومية أشهر وسنوات. شلل سياسي متقطّع وصولاً الى انفجار دمّر ثلث العاصمة في 4 آب 2020. كلّهة تفاصيل تركت تداعيات مباشرة على الاقتصاد في غياب الثبات السياسي والأمني. تضاعفت حجم الأضرار التي لحقت بالسياسات الاقتصادية.

وبعدما وصل النمو الاقتصادي الى 10% ما بين 2007 و2010، بدأت شرارات تعطيل محور 8 آذار تلقي بثقلها على الانسحابات الأجنبية المباشرة التي تدنّت عام 2010 إلى 2.5 ملياري دولار. وعندما سحب “حزب الله” وحلفاؤه البساط مع استقالة وزرائهم خلال زيارة سعد الحريري الأميركية، بدأ النمو يشكل معدلات سلبية بالترافق مع انسحاب الاستثمارات والاعتداءات الأمنية التي تعرّض لها سياح عرب وأجانب. بدأت الدولة حينذاك اعتماد الانفاق المبني على الاستدانة.

عام 2015 غابت الملاءة للدولة اللبنانية بالعملة الصعبة تلاها الحصار السياسي المستمر لكلّ مساعي الرئيس سعد الحريري للانقاذ المالي، وصولاً إلى استقالته عام 2017 مما انعكس اهتزازاً في الاقتصاد وخروج 6 مليارات دولار من المصارف اللبنانية. ثمّ أتى سعد الحريري بمساعدات مؤتمر سيدر بمبلغ 11 مليار دولار، اصطدم بعرقلة مساعيه للعمل على تنفيذ الاصلاحات الاقتصادية المطلوبة منذ سنوات.

بعدئذ، دقّت وكالات التصنيف الائتماني ناقوس الخطر الاقتصادي مع إصدار تقارير في 23 آب 2019 نبّهت مباشرة إلى نهاية لبنان اقتصادياً. ولم تستطع القوى السياسية إدارة البلد بعد استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري استجابة لنداءات انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. اتخذت حكومة حسان دياب قرارا كارثيا بوقف سداد سندات “اليوروبوندز”، مما حوّل لبنان الى بلد متخلّف ماليّاً، قبل عرقلة مساعي تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة حكومة دياب على مرحلتين بعد تكليف مصطفى أديب ثم سعد الحريري.

شارك المقال