الطرابلسيون في ذكرى استشهاد الحريري: عصيّ على النسيان!

إسراء ديب
إسراء ديب

ما إنْ يُذكر اسم رئيس الحكومة الأسبق الشهيد رفيق الحريري في مدينة طرابلس، حتّى تكون الحسرة على رحيل هذه الشخصية السياسية الصامدة هي الشعور القاسي الذي يشعر به معظم أبناء هذه المدينة الذين يشعرون بعاطفة كبيرة لرجل أبى أن يسقط كما سقط غيره في مستنقع النسيان، أو في بركة السياسة المحلّية الموحلة التي أدّت إلى غرق هذه البلاد في أزمات مالية، سياسية وأمنية كنّا في غنى عنها.

لا يجتمع اثنان في المدينة إلّا ويكون الحديث عن شخصية الرئيس الحريري ثالثهما، وبعد مرور 17 عاماً على استشهاده، ومواجهة البلاد أصعب الأحداث مع فئات سياسية خالفت سياسة الإعمار والبناء واتجهت إلى سياسة التدمير الممنهج، يُمكن الاعتراف بالخسارة الكبيرة التي بات يشعر بها المواطنون في البلاد التي شبعت من تصلّب المواقف الخاطئة التي أدخلتها في نفق مظلم لا يُشبهها، كما دفعتها إلى الخسارة أمام الرياح العاتية التي هبّت من كلّ حدبٍ وصوب ما أضعف ركائز هذه الدّولة المرهونة لصالح مشروع تدميري يُخالف نهج الشهيد.

الحريري والتواضع

يصف أبناء طرابلس الشهيد بالمتواضع الذي ينبذ التكبّر، الطائفية والتمييز الذي يُطبّق حالياً في مختلف الإدارات اللبنانية العامّة منها والخاصّة. في الواقع، لقد تمكّن الرفيق من تسجيل بصمة غير قابلة للنسيان أو للتجاهل في السياسة من جهة، كما بين الشعب اللبناني من جهة ثانية.

وتذكر أم زكريا (54 عاماً) وهي من سكان الزاهرية، أنّ الحريري مرّ يوماً بسيارته الخاصّة وكان يقودها وحده، ليصل إلى القبة حيث أقيم مشروع الحريري حينها، وتقول لـ “لبنان الكبير”: “بلا حرس خاصّ أو سائق خاصّ، تمكّن الحريري من اجتياز أحياء طرابلس بشكلٍ اعتياديّ وطبيعي ولم يُحدث (شوشرة) رخيصة كتلك التي يقوم بها السياسيون اللبنانيون اليوم”.

الرئيس الحريري الذي أراد وضع طرابلس فعلياً على خريطة الإنماء، بالتنفيذ لا بالكلام، واجه معرقلين محلّيين وطرابلسيين ليمنعوا هذا المشروع، وفي المقابل، لم يُقدّم المعرقلون لا سيما من الطرابلسيين أيّ مشروع تنموي يُسهم في تنشيط الاقتصاد في المدينة على الرّغم من امتلاكها الكثير من المقوّمات التي تسمح لها بذلك، ومع وجود مرافق اقتصادية قادرة على تفعيل الاقتصاد الوطنيّ، أُغرقت طرابلس بالوعود لأعوام، فيما كان الحريري لا يتردّد في أيّ وقت أو ظرف في تقديم الخدمات الطبية، المالية، الصحية، والأكاديمية بلا تمييز مهما كان نوعه، وهذا ما يذكره الشماليون عامّة، والطرابلسيون خاصّة.

الثورة والشهيد

تُحافظ مدينة طرابلس على وفائها وإخلاصها للشهيد، حتّى بعد إعلان ثورة 17 تشرين الأوّل عام 2019 التي نفذت فيها احتجاجات كبيرة استمرّت لأشهر، يُمكن القول إنّ أسماء السياسيين كلّها سقطت في جدول هذه الثورة التي أعلنت اعتراضها عليهم بدءاً من رأس الهرم، إلّا اسم رفيق الحريري بقي في مكانٍ آخر، بعيداً عن التجاذبات السياسية، وبعيداً عن أيّ لحظة ضعف عاشتها مختلف الفئات الطرابلسية والشمالية، وذلك نظراً الى تقديرهم لشخصية سياسية فريدة من نوعها.

أمّا في وقتٍ تُواجه فيه البلاد ظروفاً قاهرة، وصمود المدينة أمام مختلف الموجات التي منها ما “نبت” بشكلٍ مفاجئ ومنها ما غرس في أرض البلاد بشراسة، لم تتمكّن طرابلس من الخروج من دائرة تعلّقها بنهج الرئيس الشهيد، ومهما اختلفت الآراء والتوجهات، كانت ولا تزال ترى أنّ الحريري نموذج للقيادة والزعامة الحقيقية التي تُوافق أهواء المدينة واختياراتها السياسية.

لا ينسى أحد في المدينة التفجير الكبير الذي استهدف موكبه في يومٍ مشؤوم، فهذا الرجل الحاضر الغائب، فاجأ رحيله الكبار والصغار الذين عادوا من مدارسهم لمتابعة النقل المباشر الذي صوّر هذا الحدث، في وقتٍ كان الكبار يبكون باستمرار متأمّلين أن تكون هذه الأخبار كاذبة وغير دقيقة، أيّ أنّ استشهاده مع رفاقه مجرّد إشاعة أو إصابة طفيفة قد تمرّ بتداعياتها في يومٍ من الأيّام. و لكن بعد تأكّدهم من الخبر، وضعوا جميعهم بدون استثناء أيديهم على قلوبهم بغصّة لا تُنسى، حُفرت في القلب وهي غير قابلة للشفاء منذ تلك اللحظة الحاسمة في تاريخ لبنان، والواقع يُؤكّد أنّ هذه البلاد قبل الرفيق لم تعد كما هي بعده.

ولو كره الكارهون أو “المخرّبون”، لا يُمكن أن ينكر أحد دوره الوطنيّ الذي أحيا البلاد بعد انتشار رائحة الموت والدمار، ولو لم يقم الشهيد بهذه المشاريع التي أعادت بناء ما دمّرته الحرب، لكنّا شهوداً على بقاء بقايا الجثث، الدماء والجرذان التي كانت تتنقل في ساحة الشهداء حينها، كما يقول كلّ من زارها بعد الحرب، فإنْ كره الشهيد هذا المشهد، لم يكن ليبغضه غيره الذي أثبتت الأيّام أنّه عاشق للخراب، وأبرز المؤشرات الأخيرة هي تفجير مرفأ بيروت الذي لم يُحرّك ضمائرهم أو جيوبهم سعياً الى المساعدة والتنمية، وغيرها من المشاهد التي باتت تُشبه كلّ شيء إلّا واجهة لبنان الحقيقية.

شارك المقال