رفيق الحريري… الغائب الحاضر… عصيٌّ على الشطب والإلغاء!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

لم تحظَ شخصية في لبنان في العصر الحديث بالأهمية التي حظيت بها شخصية الشهيد المظلوم رفيق الحريري.

كان منذ توليه مقاليد السلطة في لبنان كرئيس حكومة بعد إنتخابات عام 1992، شخصية جدلية إختلف حولها الناس من مسلمين ومسيحيين، يساريين ويمينيين، تقليديين وثوريين، وطنيين وعروبيين، مع أنه لم يكن جديدا على الساحة، فقد سمع الناس باسمه أول مرة بعد الإجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982، وكانت بيروت لا تزال تحت الأنقاض بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، واغتيال الرئيس المنتخب يومها بشير الجميل وما أعقبه من مجازر صبرا وشاتيلا وإنتشار قوات متعددة الجنسيات. يومها مدّ رفيق الحريري يده ليرفع الأنقاض من شوارع بيروت، وينتشلها من هوة اليأس والدمار والموت البطيء، وليمسح بيده على جبينها ويعيد إليها الأمل الذي كان البعض يعتقد أنه دُفِن تحت الأنقاض، فأحياه رفيق الحريري وكأنه أحيا الناس جميعاً في بيروت ولبنان، فحفر اسمه في القلوب. مرة أخرى، ظهر إسم رفيق الحريري أيضاً لإغاثة بيروت سياسياً هذه المرة بعد انتفاضة 6 شباط 1984، حين جاء مبعوثا للعاهل السعودي للتوسّط بين أفرقاء النزاع وكانت إجتماعات جنيف ولوزان التي أدت لإلغاء إتفاق 17 أيار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية لأول مرة بعد الحرب اللبنانية وضمّت أطراف النزاع اللبناني الفاعلة على الأرض. وإستمرت بعدها مساهماته في محاولات رأب الصدع بين اللبنانيين حتى ولادة إتفاق الطائف الذي كان له الدور الكبير في التوصل إليه.

بعد دخوله المعترك السياسي بالمباشر وتسلمه رئاسة الحكومة عام 1992، وبداية طرح مشروعه لإعمار لبنان بعد الحرب، كان من الطبيعي ككل صاحب مشروع أن يتحول الى شخصية جدليّة بين مؤيد له ومعارض، ومشكّك وحذر في التعامل مع سياساته ولا سيما أنه صاحب شخصية كاريزماتية قوية، فضلا عن أن الظروف الدولية والإقليمية والداخلية التي رافقت دخوله السلطة، تميّزت دولياً بدخول العالم مرحلة القطب الواحد بانهيار الإتحاد السوفياتي، وإقليمياً بانعقاد مؤتمر السلام في مدريد لتسوية الصراع العربي – الصهيوني ومحاولة حل المشكلة الفلسطينية، وكذلك داخلياً كان هناك مقاطعة مسيحية للانتخابات النيابية وخلافات حول طريقة تطبيق إتفاق الطائف مما خلّف يومها ما سُمّي بالإحباط المسيحي بعد تلزيم أميركا والعرب تطبيق إتفاق الطائف للنظام السوري مكافأة له على انضمامه للتحالف الدولي الذي أقامته أميركا ضد نظام صدام حسين بهدف تحرير الكويت.

من بوّابة هذه الظروف بدأ معارضوه سواء لشخصه أو لمشروعه بالتهجّم عليه ليس بالنقد العلمي للمشروع مثلاً أو التوجهات وهؤلاء كانوا قلّة، بل بالحقد عبر رميه بالإتهامات تارة بالعمالة وأخرى بالتخوين، وثالثة بالفساد إنطلاقاً من كونه رجل أعمال. والملفت في الأمر أن هذه الجوقة التي ما زال بعض أبواقها يردح حتى اليوم وينفث سمومه على الشهيد على الرغم من غيابه منذ 17 عاما، كانوا جميعهم من المتطرفين في عقائدهم السياسية أو الدينية أو الإجتماعية. فالمسيحي المتطرف اتهمه بـ”أسلمة” لبنان، والمسلم المتطرف اتهمه بـ”محاباة” المسيحيين عبر شعاره بأننا أوقفنا العد، وبأن المسيحي المعتدل أقرب إليّ من المسلم المتطرف، واليساري المتطرف اتهمه بـ”بيع” لبنان والفقراء للرأسمالية المتوحشة، والعروبي المتطرف اتهمه بـ”الترويج” للسلام مع إسرائيل والمراهنة عليه، وهكذا حتى لم يبق أحد في لبنان “ما بلّ إيدو برفيق الحريري” كما صرح هو نفسه رحمه الله في إحدى المقابلات.

في المقابل، كان هو يعكف على العمل في الداخل والخارج لإعادة لبنان إلى الخريطة العربية والدولية في ظروف صعبة تخللها عدوان صهيوني عام 1993 وآخر عام 1996، مع تهديدات صريحة من إسرائيل بأنها لن تسمح له بإتمام مشروعه للإعمار، فكان أن حقق القسم الأكبر منه في مدة قياسية هي ست سنوات من عام 1992 حتى عام 1998 عام تولي إميل لحود سدّة الرئاسة حين بدأ يزداد تغوّل النظام الأمني اللبناني – السوري خاصة بعد عام 2000 وتولي بشار الأسد السلطة في سوريا. ست سنوات قضاها في العمل على إزالة آثار 15 عاما من الحرب والدمار، مع العلم أنه من المتعارف عليه أن إعادة البناء هي أصعب بمراحل من التدمير، لكن رفيق الحريري قلب كل المعادلات وهو ما زاد في عداواته السياسية من أعداء النجاح والفاشلين الذين لم يكن لهم من مشروع حقيقي يواجهونه به سوى الحقد والحرتقة السياسية والكلام الفارغ الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، اللهم إلا جوعهم للشهرة والمال الذي كانوا يجنونه مقابل التهجم عليه من أسيادهم الذين لم يجدوا بدّاً من قتله كي تخلو الساحة لهم ولمشاريعهم المدمّرة للمنطقة والبلد وهو ما تحقق منه الكثير للأسف الشديد حتى اليوم على الأقل، فنظرة واحدة على المنطقة وصراعاتها ومن ضمنها لبنان، تكفي لمعرفة من قتل رفيق الحريري السياسي المعتدل والحكيم والمسالم، وهي صفات إنسانية لا يفقهها ولا يؤمن بها الأشرار الذين تسيّرهم أهواؤهم القذرة ليغتالوا كل ما هو جميل في هذا الوجود .

لم يكتفِ القتلة بشطبه جسدياً بل أصرّوا على شطبه معنويا من قلوب وعقول وضمائر الناس، وهو ما حاولوا ولا يزالون منذ اغتياله عام 2005 وحتى اليوم، ومع ذلك وعلى الرغم من مرور 17 عاما على غيابه، ما زال يؤرقهم ويخيفهم على الرغم مما يبدو للبعض بأنه “انتصارات” حققها أعداؤه عليه وعلى وريثه السياسي من بعده، لأن مشروعه هو مشروع حياة ومشروعهم مشروع موت ودمار، بشكل بدا وكأن رفيق الحريري في مماته كما في حياته قلب كل المعادلات بحيث يقارع الزمن وتثبت ذكراه الباقية بأنه عصيّ على الشطب والإلغاء، فهو الغائب الحاضر دائماً، وهم حاضرون لكن غائبين في قلوب وذاكرة الناس، فقد أثبتت الأيام فشلهم، وأن كل ما كانوا ينسبونه من موبقات لرفيق الحريري إنما هي صفاتهم ليست موجودة إلا في قلوبهم المظلمة والمريضة الممتلئة حقدا وكراهية، وما الدليل إلا الوضع الذي يعيشه البلد اليوم، وكأني بهم يثأرون من الناس الطيبين الذين أحبّوا رفيق الحريري، وبأن حقدهم عليه وعلى ذكراه إمتد ليضرب هؤلاء الناس الذين يعانون الأمرين من فسادهم وفشلهم في إدارة أمور البلاد والعباد.

الفارق بينهم وبين رفيق الحريري كالفارق بين الحق والباطل إذ يقول الله في كتابه الكريم “كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال”، سورة الرعد الآية 17. صدق الله العلي العظيم. رحم الله رفيق الحريري، وحفظ لبنان واللبنانيين على الرغم من كل المصاعب.

شارك المقال