القضاء العوني ينزلق من قوس المحكمة إلى قوس قزح التجارب اللحودية

المحرر السياسي

أعطى القانون للنيابات العامة سلطة الادّعاء وتحريك دعوى الحق العام باسم المجتمع ومن أجل حماية المصلحة العامة وليس مصالح النائب العام الحزبية أو توجهاته السياسية او انتماءه الطائفي، غير أن من يُراقب تحريك الدعاوى من قبل بعض القضاة الذين يدورون أو يُدارون في فلك العهد المستقوي سوف يلحظ بكل وضوح أن تلك الادعاءات لا ترمي لا الى تحقيق العدالة ولا الى إحقاق الحق ولا الى الوصول الى الحقيقة بل تكاد لا تبحث الا عن “مانشيت” تحتلّه لاثارة الانقسامات التي يتم توظيفها في عمليات الاستقطاب واستنهاض الشعبية المتداعية لتيار العهد الذي سمى نفسه يوماً تيار الاصلاح والتغيير ليكتشف اللبنانيون أنه كان في الحقيقة تيار الافلاس والتعتير.

في الواقع، كرّست التشكيلات القضائية التي صدرت عام ٢٠١٧ في فترة توليّ الوزير السابق سليم جريصاتي لوزارة العدل حضوراً قوياً لقضاة محسوبين على التيار الوطني الحرّ في مراكز أساسية منها الى جانب النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون، مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية السابق بيتر جرمانوس قبل انقلابه على حاضنته السياسية بعد استقالته من القضاء عقب احالته الى المجلس التأديبي للقضاة على خلفية اتهامات مرتبطة بملف فساد أجرت التحقيقات فيه شعبة المعلومات في قوى الامن الداخلي.

ولم يكُن ادعاء القاضية غادة عون يوم امس على المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان على الرغم من كل شوائبه يُشكّل سابقةً في الممارسة الكيدية العونية، اذ سبقها في ذلك مفوض الحكومة السابق بيتر جرمانوس في أيار ٢٠١٩ يوم ادّعى على شعبة المعلومات بجرم تسريب تحقيقات وعلى المدير العام لقوى الامن اللواء عماد عثمان بحجّة منع تنفيذ استنابة قضائية بموضوع أذونات البناء وحفر الآبار.

واذا كانت ادّعاءات جرمانوس عام ٢٠١٩ تتشابه مع ادّعاء غادة عون الحالي لجهة أنها تستند الى ملفٍ فارغ سوى من بعص قصيقصات الورق المفصّلة غبّ الطلب وأنها تصلح فقط “لمانشيت” يحتاجه العونيون بعد أن أوصل عهدهم لبنان الى قعر جهنّم، الا أن الظروف السياسية تغيّرت كثيرا منذ ثلاث سنوات حتى اليوم، اذ في عام ٢٠١٩ أتى إدعاء جرمانوس كردّ فعل على فتح ملف الفساد القضائي من قبل شعبة المعلومات بإشراف مفوض الحكومة المعاون في المحكمة العسكرية القاضي هاني حلمي الحجار والمصنّف عونياً أنه قريب الى الرئيس سعد الحريري، والذي طالت شظاياه الى جانب مفوض الحكومة بيتر جرمانوس قضاةً وأصحاب نفوذ وسماسرة قريبين من الحالة العونية، حتى أن التوقيفات التي قام بها الحجار يومها شملت مرافق القاضية غادة عون من أمن الدولة، مما دفع بها الى اطلاق حملة تهليل وتهانٍ على صفحتها الفيسبوكية من اجل ايهام الرأي العام بأنها هي من أوقفت المرافق بعد أن اكتشفت فساده، في وقت كانت تمارس عون فيه الضغوط على جرمانوس والحجار لنقل ملف التحقيق مع مرافقها اليها حتى أنها بادرت جرمانوس حسبما نُقل عنه بعد أن طلب منها التواصل مباشرة مع الحجار لكونه هو من أوقف مرافقها بالقول “أوّل مرّة بعرف أنو مفوض الحكومة صار سنيّ”، ولتنصرف بعدها لتخوض حرب توقيفات لقريبين من جرمانوس وتفاوضه على اطلاق سراحهم مقابل اطلاق سراح مرافقها الأمر الذي لم يكُن متاحاً على الرغم من كل الضغوط التي حاولت أن تمارسها على الحجّار الذي أصرّ على ابقاء الملف أمام القضاء العسكري. وترافق كل ذلك مع تدحرج كرة ثلج التوقيفات في ما عُرف بملف “سماسرة العدلية”، ليطال صداها أسماء قضاة كان يُفترض بالنائب العام التمييزي آنذاك القاضي سمير حمود أن يتولى التحقيق معهم الا أن القاضية عون دخلت على خط تلك التحقيقات وطلبت ومن خارج اختصاصها من شعبة المعلومات تنظيم محضر بشأن هؤلاء القضاة، وإدّعت على سماسرة بجرم رشوتهم وأحالت الملف الى دائرة التحقيق في بعبدا مما دفع إثنان من قضاة التحقيق الى التنحي عن النظر في الملف، ولم يُعرف بعدها مصيره وما اذا كان قد أحيل الى النيابة العامة التمييزية صاحبة الاختصاص أم جرى إقفاله، بعد أن تم توزيع نسخ عنه بين ناشطين في “التيار الوطني الحرّ” تولوا تسريب مضمونه حسب المصلحة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الاعلام في إطار التسويق لحملة عونية مزعومة على الفساد، لكن كان الهدف منها حقيقةً التغطية على توقيف مرافق غادة عون وتوقيف سمسارَين واحد عرّف عن نفسه بأنه مدير مكتب مفوّض الحكومة السابق وآخر قريب من أحد نواب التيار الوطني الحرّ.

وبالعودة الى الظروف السياسية التي تبدّلت بين العام ٢٠١٩ والعام ٢٠٢٢، فقبل ثلاث سنوات أتى الخلاف الامني القضائي بين تيار “المستقبل” و”التيار الوطني الحرّ” والذي احتل صدارة الاحداث طوال أشهر كانت فيها جلسات مجلس الوزارء معطلّة، ليُكرّس حالة الطلاق بين الفريقَين بعد التسوية الرئاسية التي كانت قد دخلت في عامها الثالث، وبلغ هذا الاشتباك حدّ توجيه القاضي هاني حلمي الحجار، الذي كان يشغل يومها مركز مستشار قانوني لرئيس الحكومة سعد الحريري، الى مجلس القضاء الاعلى طلباً لنقله من النيابة العامة العسكرية على خلفية القطيعة بينه وبين القاضي بيتر جرمانوس واعتراضاً على مخالفات تحصل في عمل النيابة العامة العسكرية لعلّ أبرزها مرافعة مفوضّ الحكومة التي طلب فيها اعلان براءة المقدم سوزان الحاج وادّعاءه قبلها على شعبة المعلومات واللواء عماد عثمان. ويقول عارفون يومها أن الحجّار شرح لرئيس مجلس القضاء الاعلى السابق القاضي جان فهد الشوائب التي تحصل في أداء النيابة العامة العسكرية معتبراً أن من شأن استمرارها أن يضرب التوازن والتعاون بين الأجهزة الامنية، قبل أن يتقدّم بعد عدة أسابيع بطلب لنقله من المحكمة العسكرية وسط حملة لتشويه السمعة تعرّض لها خصوصاً من وزير الدفاع آنذاك الياس أبو صعب والذي تتبع له المحكمة العسكرية.

أما ادّعاء القاضية غادة عون اليوم فهو يأتي على بعد أمتار قصيرة من نهاية السباق الى جهنّم الذي يخوضه العهد الحالي بعد أن خاض رئيسه معركة ابقائها في موقعها القضائي عبر تعطيل التشكيلات القضائية ورفض توقيع مرسوم اصدارها. وفي وقت لم يعُد للعهد ما يخسره على أعتاب انتخابات نيابية يتوقّع المراقبون أن تتقلّص فيها الكتلة العونية بشكلٍ كبير، في وقت أعلن فيه رئيس “تيار المستقبل” الرئيس سعد الحريري تعليق العمل السياسي وعدم المشاركة في الانتخابات، وقد يكون العونيون اعتبروا أن الفرصة متاحة لهم في نهاية عهد الرئيس ميشال عون لتكرار تجربة بداية عهد الرئيس السابق إميل لحود التي بدأت باحراج الرئيس الشهيد رفيق الحريري لدفعه الى الاعتذار من تشكيل الحكومة قبل شنّ حملة انتقامية تجاه المواقع القريبة من “تيار المستقبل”. ويبدو أن الرئيس عون، الذي يفتقد الى وجود نائب عام تمييزي يشبه عدنان عضوم الذي شكّل رأس حربة للرئيس لحود في مواجهة اخصامه، يحاول تحقيق الامر عينه مستفيداً قضائياً من تهوّر القاضية غادة عون و اليأس الذي ضرب رؤساءها من مواجهتها خصوصاً في ضوء الشعبوية التي تمارسها تجاههم على مواقع التواصل الاجتماعي من اجل احراجهم واظهارهم في دور المعرقلين لتحقيقاتها الدعائية، وهو خصوصاً ما تعرّض له رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي سهيل عبود والنائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات المغضوب عليهما عونياً يوم حاولا وضع حدّ لتمادي غادة عون في تهشيم صورة القضاء أمام عدسات الكاميرات، كما والاستفادة سياسياً من “القرف” الذي دفع الرئيس سعد الحريري إلى تعليق عمل تياره السياسي على قاعدة “يلي بجرّب المجرّب بكون عقله مخرّب”، ومستفيداً أيضاً من جلوس الرئيس نجيب ميقاتي في المنطقة الرمادية على قاعدة “إجر بالبور وإجر بالفلاحة”. الا أنه فاته أن تجربة الرئيس لحود جرّت البلاد الى زلزال اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والى خروج الجيش السوري من لبنان والى ثورة الأرز التي كان “التيار الوطني الحرّ” جزءاً منها قبل انخراطه في محور ٨ آذار “شكراً سوريا” وتوقيعه لمذكرة ورقة “توت” التفاهم التي سقطت وظهرت كلّ عوراتها التي كان من شأنها تدمير علاقات لبنان بمحيطه العربي والخليجي، فعسى أن يتّعظ المغامرون ويكفّوا عن استهداف ما تبقى من مؤسسات في لبنان، وقبل أن يعيدوا التجارب السابقة التي لا تحتمل التكرار ليفكروا ملياً بالمثل القائل “التكرار بعلّم…”.

شارك المقال